/ صفحه 353/
مع ما كان لله عليهم في شخص أبيهم "إسرائيل" من فضل عظيم يجب أن يذكروه وأن يقدروه، فيخلعوا أنفسهم عن موقف العناد والمكابرة إلى موقف الطاعة والاستجابة، وفى التذكير بمكانة الآباء إحياء للإحساس بالشرف والشعور بالكرامة عند الأبناء، وفى هذا الإحياء إحياء للعزيمة الصادقة، وتقوية لها على عوامل الهوى والشهوة.
"يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتى التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم".
"يا بنى إسرائيل قد أنجينا كم من عدوكم وواعدنا كم جانب الطور الأيمن، ونزلنا عليكم المنَّ والسلوى كلوا من طيبات مارزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى ومن يحلل عليه غضبى فقد هوي".
(5) ونادى طوائف أهل الكتاب، ناداهم بهذا العنوان تبكيتاً لهم على ماكانوا يرتكبون من أفانين التضليل، وأنواع التشكيك التي كانوا يحاربون بها الدعوة المحمدية.
"يأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكنمون الحق وأنتم تعلمون" "يأهل الكتاب لاتغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الا الحق" وكأنه يقول لهم: إن صنيعكم هذا لا يتفق مع ما نزلت به الكتب عليكم، إنَّ صدقكم في نسبتكم إلى الكتب يحتم عليكم تلبية الدعوة التي تصدِّق رسلكم، والتى تضمنتها كتبكم وكنتم بها من قبل مؤمنين، فلستم كالمشركين الذين لم تنزل عليهم كتب، ولم يشرق في آفاقهم شيء من نور الحق.
وقد يناديهم بهذا الوصف إغراءً لهم، لتلبية الحق الذي يُدعوْن إليه، والذي لم يكن شيئاً جديداً عليهم.
"يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله".
(6) وكما نادى سبحانه وتعالى طائفتى اليهود والنصارى بوصف أهل الكتاب نادى طائفة الذين آمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصف المؤمنين، وإن المتتبع للنداءات الإلهية في القرآن يجد أكثرها موجها إلى المؤمنين، فقد بلغت نداءاتهم تسعة وثمانين نداءا، وأنه لم يقع نداء واحد منها في آية مكية، وإنما وقعت كلها في الآيات التي نزلت بعد أن تكوَّن المسلمون بالهجرة جماعة لها كيان خاص، وقوة خاصة، وسبيل خاص.
ناداهم بهذا الوصف الذي تركز في نفوسهم تنبيها إلى أن الإيمان من شأنه أن يحملهم على الاستجابة لما طُلِبَ منهم وكلفوا به، وتنبيها الى أنهم بحكم اشتراكهم في ذلك الإيمان مسئولون عن هذه التكاليف التي هى من أحكام الإيمان؛ يُسأل اشخص المؤمن عن نفسه، ويسأل عن أخيه، وهذا هو الأصل فيما يقرره الإسلام من تصامن أهله، ومسئولية بعضهم عن بعض في تنفيذ الأحكام والعمل بمقتضاها.
"و المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهْون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم".
نادى الله المؤمنين بهذا الوصف في الأخلاق، وفى الأحكام؛ ففى الأخلاق: "يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون".
"يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكنَّ خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان".
"يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا".
"يأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا".
"يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاًُ غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم".
وهكذا استنهض القرآن المؤمنين بالنداء بهذا الوصف المحبب للنفوس. المكرَّم للعقول، إلى مكارم الأخلاق في آأفراد والجماعات، سمواً بهم إلى أعلى مراتب الإنسانية.
وكما ناداهم في الأخلاق حثاً على التحلى بها؛ ناداهم في الأحكام حثاً على امتثالها والعمل بمقتضاها.
ناداهم في الأحكام التي يطالب بها كل فرد فرد:
"يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام".
"يأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله".
"يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون".
وناداهم في الأحكام التي طلب وجودها فيما بين الجماعة، وطلبها من الجماعة من جهة أنها جماعة، والشأن في هذا النوع أن يناط تنفيذه بمن يمثل الجماعة وينوب عنها مع مسئولية الجماعة عنه، وهذا هو أساس مسئولية الحاكم أمام الجماعة في نظر الإسلام.
"يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلي".
"يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار".
ويلا حظ هنا أنه كما أن الأمة مسئولة عن هذا النوع الذي نيط تنفيذه بالحاكم النائب عنها، وكان الحاكم مسئولا أمامها عنه، فإن الحاكم مسئول أيصاً عن النوع الآخر الذي طلب من الأفراد ونيط بهم تنفيذه، ومن هنا وجدت في الإسلام للحاكم سلطة إقامة الحدود وتوقيع العقوبات على من قصر في واحب من الواجبات فعلا أو تركاً؛ فملك عقوبة من ترك الصلاة، أو أفطر في