/ صفحه 35/
وقد أشعرنا الكتاب الكريم بأن هذه الحكمة نور عقلي شائع بين جميع الأمم قديما وحديثا، قال تعالى: "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة، وآتيناهم ملكا عظيما" وقال تعالى: "و قتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة" فالحكمة على هذا الاعتبار أرفع درجة من الفلسفة، لأنها المولدة لها، والحاكمة عليها، وإنما تمتاز الفلسفة عنها بمظهرها العلمي، وقالبها الفني، وقبولها للنظام الأسلوبي الذي يتأتي معه انتسابها للأفراد والجماعات، وإمكان جعلها موضوع دراسة منظمة.
قد وصفنا الحكمة بأنها نور عقلي، مريدين بذلك أنها متولدة من النور العقلي الذي خص الخالق به النوع البشري، وجعله هاديا له يأخذ بيده في ظلمات الحياة الأرضية، ويدله على ما هو بحاجة إليه من المحاولات الفكرية والجسدية، ليستطيع أن يعيش في بيئة ألقى به فيها عاريا وبغيره عتاد، وقاد هداه هذا النور العقلي المستمد من النور الإلهي إلى جميع مرافق حياته، ودله على سبيلي الخير والشر، والنافع والضار، وعلى ما به قوامه ومصلحته وارتقاؤه، وما فيه هلاكه وتعسه وارتكاسه، والمتأمل في الإنسان لأول عهده بهذا العالم يعجب كيف استطاع أن يرتقى عن تلك السذاجة الحيوانية التي نشأ عليها، ويبلغ إلى الدرجة التي هو فيها اليوم من الارتقاء العقلي والخلقي، ومما هدى إليه من الصناعات والفنون، وما كشفه من مساتير الكون ومكنونات العلوم؛ ولا يجد مناصاً للخروج من هذه الحيرة إلا بالتسليم بمهمة الرسل الذين كان يرسلهم الخالق إليه بني حين وآخر يفتحون أمامه طرق التأمل في قوى الكون، والنظر إلى ما حوله من وسائل الطبيعة، وحمله على توجيه قواه الأدبية إلى ما يرفعه عن حضيص الحيوانية، ويدفع به للنظر فيما بين يديه وما حوله من ظواهر الوجود وإمكان الاستفادة منها لحياته الشخصية والاجتماعية، وإلى ما يجب أن يستشعره من الواجبات الذاتية والعمومية؛ فتشبع جو الحياة الإنسانية على هذا النحو بالحكم النيرة، والأصول القيمة، وذاع العلم بها حتى أصبحت من المقررات الأولية لدي الناس أجمعين، إلا أهل الشذوذ