/ صفحه 323/
بشئون السياسة والاقتصاد. فالحكم في الإسلام خدمة عامة للأمة وليس تحكماً فيها ولا سيادة عليها، وهو يقوم في نظر القزآن على العدل والإحسان، ثم هو أمانة، يجب أن تؤدى إلى صاحبها على أكمل الوجوه وأسلمها. ثم يكل هذا الحكم إلى الأمة، يجب أن تؤدى إلى صاحبها على أكمل الوجوه وأسلمها. ثم يكل هذا الحكم إلى الأمة نفسها، ويكلفها أن تسير فيه على نهج مرسوم، ليس لها أن تحيد عنه، وهو نهج العدل الذي يضمن خير الفرد والمجتمع، ويخاطبها في شأنه بأسلوب يحمل على الستجابة ورفض دواعى التحلل من العدالة. فيذكر العدل مرتين مقروناً بكلمة "إن الله يأمر" ليؤكد طلبه، ويدفع القلوب المؤمنة إلى الاستجابة لداعيه، بينما لم يستعمل هذا الأسلوب الأخّاذ في غير طلب الحكم بالعدل من الامة "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعمّا بعظكم به" "إن الله بأمر العدل والإحسان".
ويجعل الإسلام الأمة حق اختيار حكامها، اختياراً يقوم على الرضى لا على الضغط والقهر، كما أن لها حق مراقبتهم، ومحاسبتهم، وعزلهم إن لزم الأمر، وأعطاها من السلطان مالم يطعها أى دستور بشري، وقررفقهاء الإسلام أن الحاكم مجرد نائب عن الأمة،(1) ويقول عمر: إن منزلته من الأمة كمنزلة والى اليتيم منه ومن ماله، ليس له عليه سيادة، وليس له معه إلا حسن التربية، وحسن الإشاد والرعاية؛ واعتبروا "الخليفة" واحداً من المسلمين تجرى عليه الأحكام في كل ما يجترحه من إثم، فيؤخذ بالقصاص إذا قتل، ويلزم بما يتلفه من أموال غيره، وتقام عليه الحدود إن سرق أوزني، ويقول القفّال الشافعى صراحة: إن الأمة التي ولته هى التي تقيم عليه الحدود، وحمّل الأمة من مسئولية الحكم، مثل ما يحتمل الحاكم نفسه أو أكثر وتوعد النبى الكريم المؤمنين إذاهم جدوا ظلماً في أمته ـ وفيهم من يستطيعون أن يغيروا فلم يغيروا ـ بعذاب بعمهم من عند الله، كما قال تعال: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار" "واتقوا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة".
ولقد طبقت هذه المباديء عمليا ونجحت أيما نجاح، فهذا رسول الله صل الله عليه وسلم، يسلم ظهره أو صدره لرجل ضرب ظهره أو دفع صدره ليقتص لنفسه منه وهذا أعرابي] يقول له أعطنى من مال الله الذي أعطاك لا من مال أبيك! وهذا آخر يقول له وهو يقسم مالا: اعدال يا محمد! فيجيبه في بساطة المؤمن المعلم: "و يحك ومن يعدل إذا لم أعدل؛" وقد اقتدى به أصحابه عليه الصلاة والسلام ممن حكمتهم الأمة في أمورها، فأبو بكر يقول: (إنى وليت عليكم ولست بخيركم) وعمر يقول: من رأى منكم في أعوجاجاً فليقومه، فيقال له لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا. فيحمد الله أن وجد في أمة محمد من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه. ثم يعطى درته لرجل خفق رأسه بها بلا جريرة ويقول اخفقنى بها أو خذ عوضها أو تصدق فإن الله يجزى المتصدقين، وعثمان يعطى أذنه لعبد من عبيده عرك أذنه ويقول: أشدد فحبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة، ويعبر عمر عن حقيقة مركز الحاكم من الأمة بقوله للأشعري: "إنما أنت واحد من الناس، غير أن الله جعلك أثقلهم حملا"(2) ونظرة الإسلام هذه لا تدع مجالا للشك في أن الأمة التي خوطبت بالتكاليف العامة هى مصدر جميع السلطات لكل من يتولى شيئا من أمورها باسمها، وفرق كبير بين الأسس التي بَنَى عليها الإسلام فكرته في الحكم وسلطات الأمة، وبين الأسس الفرضية التي قامت عليها مثل هذه النظرية عند العلمانيين.
التنظيم الاقتصادي:
وليست الفلسفة السياسية الحديثة هى التي ربطت السياسة بالاقتصاد، فتلك حقيقة إسلامية
ـــــــــــ
(1) راجع في ذلك البدائع للكساني، ج 7، ص 16، مغنى المحتاج على منهاج النووى للشريينى الخطيب، ج 4، ص 140، وتحفة المحتاج للتهمثمى ج 9، ص 115، وشرح المقاصد ج 2، ص 272، والمواقف، ج 8، فصل الإمامة الكبري، وحاشية ابن عابدين، ج 3، كتاب الحدود: والحدود والإمامة في كتب الحديث، وفقه القرآن والسنة للشيخ شلتوت، ص 174.
(2) لزيادة الفائدة راجع كتابنا عصر الراشدين، ص 47 ـ 26.