/ صفحه 292/
غير أن التاريخ الذي ندرس في المدارس والمعاهد، ونقرأ في الكتب القديمة والحديثة، لا يدل على ما أزعمة للتاريخ من قيم تثقيفية وتربوبة. والعيب في ذلك راجع إلى صناعة التاريخ في الشرق الأوسط، لا إلى التاريخ نفسه، وهو عيب سبقنا إليه المؤرخون الأوربيون، ثم تركونا نخب فيه خبّ السائر في دائرة. ذلك أن الأوربيين أخذوا يعملون بتأثير نظرية التدرّج، وهى سنة من سنن الله الكونية، فاعتبروا التاريح سجلا للحياة الإنسانية وأطوراها المختلفة، ودرسوا عصوره دراسة مقارنة على أنها مشكلات حاولها الإنسان، فنجح أحيانا، وفشل أحيانا أخرى، وقالوا بأن الأحداث التاريخية ليست إلا ألوانا من الفلسفة المعروضة بطريق التمثيل، كما قالوا بأن التاريخ صور للماضى غير متكررة، وبأنه لا يعيد نفسه أبدا، وبأنه لا يمكن فهمه والإفادة منه إلا عن طريق المقارنة الذي اتخذه القانونيون سبيل لفهم أصول الشرائع والقوانين في مختلف الأمم.
لكن المقام هنا لا يتسع للإفاضة في كل هذه الدعاوى الكثيرة، وربما اخترت منها اثنتين، وهما أن التاريخ لا يعيد نفسه أبدا، وأن التاريخ لا يمكن فهمه على وجه سليم إلا عن طريق المقارنة.
والواقع أن الناس يظلمون أنفسهم والتاريخ معا من حيث لا يعلمون حين يقولون إن التاريخ يعيد نفسه، مع أن العكس هو الصحيح، لأن معناها في قولهم، أنهم لم يتغيّروا عل مرالدهور والعصور، بل جمدوا ـ فيما عدا حركة الإعادة ـ على حال واحدة رتيبة، ورضوا بتلك الحال وإعادتها جيلا بعد جيل. وذلك كله غير مطابق للحقيقة، بل هو مخالف لسنن الله الكونية القائمة على النشء والتدرج والنمؤّ والارتقاء، لا التكرار والإعادة. وطبيعى أن الناس ـ وهم بعض مادة التاريخ ـ لا يعيدون أنفسهم، وطبيعى كذلك أنهم يكرهون أن يكونوا تكراراً لجيل سابق أو أسبق.