/ صفحه 258/
لقد كان طابع المدنية الحديثة طابعا قوميا، فكل أمة ترى الخير في مصلحتها الخاصة بها، ولا تعترف بأى مصلحة لغيرها، وتزعم أنها أحق بالسيادة على الأمم الأخرى المستضعفة، وخدم العلم والأدب والتربية، هذه النزعة القومية حتى بلغت القمة، ونشأ عن ذلك مقياس أخلاقى جديد، وهو ان ما كان في مصلحة الأمة فحير مهما ضر الآخرين، وما ضر الأمه فشر مهما نفع الآخرين، وساد في كل أمة فخير مهما ضر الآخرين، وما ضر الأمه فشر مهما نفع الآخرين، وساد في كل أمة أوروبية الشعور بالكره لغيرها والخوف من غيرها، فانجلترا تكره ألمانيا وتخافها، وألمانيا تكره النجلترا وتخافها، وهكذا العلاقات بين الدول، فان كان هناك مسالمة وتودد فأمر ظاهرى فقط، ورياء ونفاق لا حب ولا إخلاص، وظل هذا هو الشأن في المدنية الحديثة من عهد أن تكونت القومية إلى اليوم.
وكل أمة أوروبيه قوية تعبد المجد؛ ومعنى المجد حب العظمة والسيطرة، والاعتزاز بالقوة، وكان من أثر هذا المجد عند كل أمة كبيرة رغبتها في أن تسيطر على أكبر رقعة من الأرض تستطيع السيطرة عليها، وفى أن يكون لها مستعمرات أو ممتلكات واسعة فسيحة، وهذا المجمد القومى غير المجد الخلقي، فالمجد الخلقى هو العمل على وفق الوقانين الأخلاقية العالمية من عدل ووفاء وإحسان ونحمو ذلك؛ أما المجد القومى فهو سيطرة واستغلال وتسخير للأمم الضعيفة لمصلحة الأمم الكبيرة، ولو اضطرها ذلك إلى إسالة الدماء البريئة، وإذلال الأعزة ورفع شأن الأذلة، وهذا ليس من الأخلاق في شيء؛ والسياسى الماهر في المدنية الحديثة هو من استطاع أن يذل الأمم المحكومة ويكبت صوتها، ويعلى من شأن أمته ويظهر سيطرتها.
ولما تغلبت الوطنية وحب المجد على أمم أوروبا وأمريكا تنافست في السيطرة طلبا لهذه العزة الكاذبة، فتسابقوا جميعاً للاستعمار، وكان الاستعمار في نظرهم هو إخضاع الأمم المستعمرة وإذلالها ما أمكن، واستغلال موادها، وفتحها سوقا لتجارتها ومنافعها. ولا عبرة عندها بخلق أو فضيلة، حتى لو رأت الأمة الفاتحة أن تجارة اخمر، أو! لأفيون، أو المخدرات