/ صفحه 239/
ولا كفر، وكثيرا ما حدثنا القرآن عن مثل هذا الوهم الفاسد الذي خدع كثيرا من الناس فأضلهم وأعمى أبصارهم: "و دخل جنته وهو ظالم لنفسه، قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا".
"إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم، وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب افرحين، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين، قال: إنما أو تيته على علم عندي، أو لم يعمل أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا، ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون".
وعلى هذا الأساس الذي أرشدنا الله إليه في كثير من كتابه أخذت سورة آل عمران تصرب على هذه العلة التي يتوارها الجبارون بعضهم عن بعض، وترشد إلى أن حب المال والغرور بمتاع هذه الحياة هما علة العلل، وهما الحائل بين الناس وبين الحياة الطيبة ولاإيمان الصادق، وفى ذلك تقول: "إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار".
ثم تضرب لهم مثلين، أحدهما من الماضى البعيد، والآخر من الماضى القريب: تضرب لهم مثلا بآل فرعون والذين من قبلهم، وتضرب مثلا بفئتى المؤمنين والمشركين في بدر وتقول: "كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب … لقد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة، يرونهم مثليهم رأى العين، والله يؤيد بنصره من يشاء، إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار".
ثم تعود السورة وتؤكد أن أموال هؤلاء لا ترد عنهم من بأس الله شيئا، ولا تنقذهم من العذاب الأليم الذي أعد لهم جزاء نكوصهم عن الحق، ومناوأتهم لهدى المرسلين "إن الذين كفروا وماتوا وهم من كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم ناصرين". "إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النارهم فيها خالدون، مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر(2) أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون".
وإنه ليجدر بأمثال هؤلاء، وهم موجودون في كل زمان ومكان، أن يلتفتوا إلى أن الأموال التي ينفقونها في لذاتهم وشهواتهم وبسط سلطانهم على الناس بغير حق؛ لابد أن تفسد عليهم في نهاية الأمر أخلاقهم وقولهم، وتهدم ما بنوا من حضارات، وشيدوا من قصور، وابتكروا من وسائل الهدم والتخريب، سقضى أموالهم هذه على حرثهم الذي له يعملون، وفى سبيل بقائه ينفقون، ولا أجد مصداقا لهذه الآية الكريمة أقرب ولا أوضح من هذه الحروب الطاحنة التي تقضى بين الفترة والفترة على كل ما لهم مما يزرعون ويحرثون.
وبينما تعرض السورة أثر الافتتان وسوء عاقبة الغرور بالأموال وألاولاد على هذا النحو؛ نراها تقرر الحق في شأن حب الناس للأموال ومظاهر هذه الحياة، وتقول إنه شيء قد فطروا عليه، ولكنه ليس هو المقصد الأسمى من هذه الحياة، وإنما هو متاع وزينة، وهو في الوقت نفسه سبيل ـ إذا أحسن استعماله وأديت حقوقه ـ للحصول على المتاع الخالد في الحياة الخالدة، سبيل لمتاع خير منه وأسمي: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة والله عند حسن المآب. قل أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين القوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله، والله بصير بالعباد".
ثم تصف هؤلاء الذين اتققوا والذين لهم ذلك الجزاء، بأنهم هم الذين أدركوا الحق وأنفقوا ما آتاهم الله من مال، ابتغاء مرضاة الله، وصبروا على ما انتابهم من بلايا ومحن، ورجعوا إلى الله بالتوبة ولاستغفار "الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفرلنا ذنوبنا وقنا عذاب النار، الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين و
ـــــــــــ
(1) البرد الشديد