/ صفحه 229/
يخذل عنه من رغبة أو رهبة، ولهذا كانت الشعوب في خير،و كانت كلمة الدين بينهم هى العليا. وكان المقام الأول للفضيلة والخلق، وكانت عظة العالم تؤثر في النفوس مالا تؤثره أوامر الحاكم، وكان ما يزع الله بالقرآن أكثر مما يزع بالسلطان!.
وحدثنا التاريخ أيضاً ـ وهو مورد المثل، ومجلى الذكريات والعبر ـ أن علماء بنى إسرائيل كانوا على طرف النقيض من هذا النهج القويم، فكانوا يمالئون على المنكر، ويرضون بتعدى حدود الله، ويسكتون على قول الإثم، وأكل السحت، وارتكاب الموبقات، فأخذهم الله جميعاً بالعذاب الشديد، وفى ذلك يقول ابن مسعود رضى الله عنه: "إن أول ما دخل النقص علي بنى إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا تق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم، ببعض ولعنهم على لسان داود وعيس ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ماكانوا يفعلون".
***
وحدثنا التاريخ ـ وهو مَوْرد المثُل ومجلى الذكريات والعبر ـ أن أهل العلم من المسلمين الأولين، كانوا مطبوعين على لون آخر من ألوان الشجاعة في الحق، ذلك هو جهرهم بما يرون، ودفاعهم عما يعتقدون، دون أن يصانعوا فيه العامة، أو يمالئوا عليه أهل الجهالات، فكم من عالم أخلص لعلمه، وآثره على دنيا الناس، ولم يعباً في سبيله بغضب الغاضبين، ولا بطش الباطشين، فهو يقارع با لحجة، ويمسّك بالمنطق، ويقف بطلا دون رأيه، ولا يكتم ما علمه الله، ولا يجد في نفسه حرجا مما شَرَح به صدرا.