/ صفحه 370/
وكان الذين يتولون هذه الحركة العدائية للعلم رجال الدين، فلما نشأت البروتستانتية في النصف الأول من القرن السادس عشر، واشتغل رجال الدين بالخلافات المذهبية، وأظهر قادة هذا المذهب الأخير تسامحاً مشكوراً حيال العلم والمشتغلين به، تحرر العلم من رقابة خصومه، فنهض رجاله، وقد امتلأوا حقداً على الدين وأهله، يشهرون بهم وبالعقائد معهم، ويبالغون في نقدهم، ونقد مذاهبهم، وكلما أمعن هؤلاء في تناحرهم، وأغرقوا في جهودهم ضد أنفسهم، عمل أهل العلم على جميع صفوفهم، وتقوية جهات ضعفهم، وعلى قدر ما كان يثمره العلم من الاكتشافات ومن اختراع الالات، وتدارك الحاجات، وكان يزداد تاثير فلسفته في العقول، ويتضاعف الشعور باحترامه في النفوس، حتى نفوس من ليس له أدنى نصيب منه من العامة ومن هم قريبون منهم من المتعلمين. فأصبح للعلم بعد هذا التطور العظيم منزلة في القلوب تفوق منزلته في العهود الماضية، ولما توالت مكتشفاته البخارية والكهربائية والمغناطيسية في القرن الماضي وما سبقه، اكتسب العلم سلطانا على النفوس لم يكن لغير الدين، وتناسى الناس العقائد، بل اغفل ذكرها أكثرهم.
كان شعور أهل العلم في هذا الدور، وقد استغرق نحواً من قرنين، شعور من أسقطوا الدين، وقضوا على دولته أبد الأبيد ! وقد صرحوا بذلك في مؤلفاتهم.
اكتسب (العلم) بالاجماع الذي انعقد حوله مكانا ممتازاً، فلو كان هذا الاجماع على العلم المطلق البالغ اقصى مداه بحيث يستحيل نقض أي حرف منه، لكان تقديسه من أوجب الواجبات على كل عاقل، ولكن العلم الانساني كان لا يزال بحاجة إلى التمحيص، وكان كثيرا مما يعتبرونه بداهات علمية لا يزال يعوزه التحقيق، وكانت المذاهب التي عللوا بها قيام الوجود بنفسه لا تزال ظنية، وكان كثير منهم يعرف هذا ولا يجاهر به حتى لا يحط من مكانة العلم الذي أصبحت له بفضل هذا التقديس المحيط به، شخصية أدبية تخر العقول امامها ساجدة، وقد بالغ بعضهم في هذا الغلو حتى وصفوه بالعصمة المطلقة، واعتبروا أنفسهم