/ صفحه 183 /
5 ـ انتخاب الوقت: لأن ما يرد إلى الذهن وقت صفائه أشد رسوخاً فيها وانطباعاً به من المعاني التي ترد إليه وهو مضطرب، ولذا اعتبروا البكرة خير وقت للحفظ والاستظهار.
فإذا نحن أردنا أن نتحقق وجود هذه الوسائل وتوافرها في الحياة العربية، أو إذا نحن شئنا تطبيق تلك الحياة على هذه الوسائل، وإرجاعها إليها لتحقق لنا ذلك معهم برّمته على أدق الوجوه وآكدها.
هذا ولقد بقي أمر آخر له خطره: هو الاستعداد الطبيعي الذي خصهم الله به من الحوافظ القويه التي امتازوا بها كما تمتاز كل أمة من الأمم بخصائص فطرية، تكوّن مشخصاتها، وتتزن بها قواها، ويكمل بها تركيبها الطبيعي.
فإذا كانت تلك حالهم، وكانت الكتابة غير طبيعية في نظامهم الاجتماعي، كان طبيعياً أن ينشأ فيهم الأخذ والتحمل، وكان طبيعياً أن يكون كل عربي رَوية فيما هو من شئونه أو شئون أبناء جنسه.
رواية الشعر في العصر الجاهلي:
ولقد كان للشعر في الحياة العربية مكانة ممتازة، لما هيأت له طبيعته السلسة وسعة صدره الرحب، وتسنّى له دون النثر من الترجمة عن دقيق الشعور، والتعبير عن المعاني النفسية الشعرية التي كانت تفيض بها حياتهم فيضاً، حتى كان الشاعر في قومه اللسان الناطق، والقلب الخافق في الدفع عن الأحساب والأنساب والاغتماز في الأعداء، يسجل أيامهم وما تستتبعها من مكاره، ويتحدث عن سلمهم وما يكنه من مباهج، إلى غير ذلك مما تقتضيه حياتهم.
وبهذا كان للشعر مقام خاص في الرواية، واعتبره الرواة عموداً لها، وكان أكثر ما يروونه للتاريخ دون سواه، حتى اتخذوه حكماً ينتهون إليه، ومرجعاً يستشهدون به على الزائف والجيد من الأخبار، فكانت الرواية فيه أعم، ونشأت له طبقة خاصة ترويه عن الشعراء الذين كانوا بمثابة المؤرخين.