ـ(57)ـ
وفي هذا المعنى يقول الامام الشاطبي ـ وهو الأصولي الثبت ـ ما نصه: (تعريف القرآن للأحكام أكثره كلي لا جزئي. وحيث جاء جزئيا فمأخذه على الكلية) (1). ويعلل الإمام الشاطبي هذا المنهج في التشريع القرآني، فيقول:
(وإذا كان القرآن كذلك فهو على اختصاره جامع، ولا يكون جامعا إلاّ والمجموع فيه أمور كليات).
هذا، وعلى الرغم من أن السنة جاءت مبينة لما اجمل القرآن في (مفاهيمه الكلية) بقولـه تعالى: (و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (2). وبقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ (أعطيت القرآن، ومثله معه) فإنه من المعلوم أن الوقائع المستجدة لا تنحصر بدليل: أن كثيرا من النوازل وما ينشيء الناس والدول في كل عصر من تصرفات وعقود قولية أو فعلية لا تزال عارية عن أحكام الشرع، ولاسيما على الصعيد الدولي، مما يفتقر إلى اجتهاد علمي من أهله لتغطية هذه الوقائع والمستجدات والعلاقات الدولية بالأحكام الشرعية في ضوء ما بثت الشريعة من (مفاهيم كلية) وما فسرت (السنة) من أحكام جزئية تتعلق كلها بمصالح حيوية ذات طبائع مختلفة، عامة كانت أم خاصة، فضلا عن المقاصد العامة الأساسية.
وفي تصوري أن هذا الأسلوب البياني الرائع المعجز الذي اتخذه القرآن الكريم من اصطفائه (للمفاهيم الكلية) لتشريع الأحكام غالبا إنما يفسر على أساس أن هذا إيماء من قبل المشرع الحكيم (جل جلاله) إلى المجتهدين في كل عصر أن يسلكوا هذا (المنهج التشريعي) إبان استنباطهم للأحكام، الفرعية أو الجزئية التي يفتقر إليها المجتمع والدولة لتدبير شؤونهما، فيما يعرض لهما من حاجات تفتقر إلى ما يغطيها من أحكام هذا التشريع، وذلك بأن يتنزل (المفهوم الكلي) على ما يتحقق فيه مناطه؛ كيلا يقع التخالف، أو التناقض بين الأحكام الجزئية الاجتهادية
_________________________________
1 ـ الموافقات في أصول الشريعة 3: 266.
2 ـ النحل: 44