ـ(177) ـ
الخبيث كان خبيثاً قبل تحريمه، ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس الحل والتحريم، فإنه بمنزلة أن يقال: يحل لهم ما يحل، ويحرم عليهم ما يحرم، فثبت أنه أحل لهم ما هو طيب في نفسه قبل الحل فكساه بإحلاله طيباً آخر فصار منشأ طيبه من الوجهين معاً. ومما يدل على ذلك أيضاً قولـه تعالى: [قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون](1) وهذا دليل على أنها فواحش في نفسها لا تستحسنها العقول فتعلق التحريم بها لفحشها، فإن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على أنه هو العلة المقتضية لـه، والعلة يجب أن تغاير المعلول، فلو كان كونه فاحشة هو معنى كونه منهياً عنه، وكونه خبيثا هو معنى كونه محرما كان العلة عين المعلول وهذا محال. ومن ذلك قولـه تعالى: [ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين] (2) فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة، وأنه سبحانه وتعالى لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولاً، ولم ينزل عليهم كتاباً، فقطع هذه الحجة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة بحيث استحقوا أن تصيبهم بها المصيبة، ولكنه سبحانه وتعالى لا يعذب إلاّ بعد إرسال الرسل، وهذا هو فصل الخطاب، وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه، وأنه لا يعذب الله عليه إلاّ بعد إرسال الرسل(3).
ومن هذا يتبين أن ابن القيم يأخذ من المعتزلة قولهم بالحسن والقبح العقليين وأن الشرع لا ينشئ في الأشياء حسنا ولا قبحاً، بل يؤكد الحسن بالحل، والقبح بالتحريم، ولكن ابن القيم في الوقت نفسه ينفي أن يكون التعذيب على القبائح إلاّ
_______________________
1 ـ الأعراف: 33..
2 ـ القصص: 47.
3 ـ الأعراف: 157.