@ 208 @ أسعارهم ولا في سائر نفقاتهم بحيث ضاقت وجوه الأسباب على الناس وصعبت عليهم سبل جلب الرزق والمعاش حتى لو نظرنا في حال الجيل الذي قبلنا وحال جيلنا الذي نحن فيه وقايسنا بينهما لوجدناهما كالمتضادين والسبب الأعظم في ذلك ملابسة الفرنج وغيرهم من أهل الأربا للناس وكثرة مخالطتهم لهم وانتشارهم في الآفاق الإسلامية فغلبت أحوالهم وعوائدهم على عوائد الجيل وجذبته إليها جذبة قوية وأنا أحكي لك حكاية تعتبر بها وتستدل بها على ما وراءها وهي أني ذاكرت ذات يوم رجلا من أهل جيلنا في هذا المعنى فقال لي إن لي راتبا سلطانيا أقبضه في كل شهر قدره ثلاثون أوقية قال فكنت في حدود الستين ومائتين وألف أقبض فيه عشر بسائط لأن صرف البسيطة يومئذ ثلاث أواق فلما أخذت السكة في الارتفاع بعد الستين صرت أقبض فيه تسع بسائط وفلوسا ثم بعد ذلك بسنة أو سنتين صرت أقبض ثمان بسائط وفلوسا ثم سبع بسائط وفلوسا وهكذا إلى أن صرت اليوم في أعوام التسعين أقبض في الثلاثين أوقية بسيطة واحدة وشيئا من الفلوس ا ه فانظر إلى هذا التفاوت العظيم الذي حصل في الجيل في مدة من ثلاثين سنة أو نحوها فقد زادت السكك والأسعار فيها كما ترى نحو تسعة أعشار والعلة ما ذكرناه ويكثر بكثرة الاختلاط والممازجة مع الفرنج ويقل بقلتها والدليل على ذلك أن أهل المغرب أقل الأمم اختلاطا بهم فهم أرخص الناس أسعارا وأرفقهم معاشا وأبعدهم زيا وعادة من هؤلاء الفرنج وفي ذلك من سلامة دينهم ما لا يخفى بخلاف مصر والشام وغيرهما من الأمصار فإنه يبغلنا عنهم ما تصم عنه الآذان فليتأمل هذا الذي ذكرناه وليعرف منه سر الله في خلقه .
واعلم أيضا أن أمر هؤلاء الفرنج في هذه السنين قد علا علوا منكرا وظهر ظهورا لا كفاء له وأسرعت أحواله في التقدم والزيادة إسراعا متضاعفا كتضاعف حبات القمح في بيوت الشطرنج حتى كاد يستحيل إلى فساد وعلم عاقبة ذلك وغايته إلى الله تعالى المنفرد بالغيب