[14] وجد في قارعة الطريق جثمان طيب طاهر غريب وحيد نازح عن الأوطان تصهره الشمس، وتسفي عليه الرياح، وذكر قول رسول الله: رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده، ويحشر وحده. فلم يدع العلم والدين ابن مسعود ومن معه من المؤمنين أن يمروا على ذلك المنظر الفجيع دون أن يمتثلوا حكم الشريعة بتعجيل دفن جثمان كل مسلم فضلا عن أبي ذر الذي بشر بدفنه صلحاء المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنهضوا بالواجب فأودعوه في مقره الأخير والعيون عبرى، والقلوب واجدة على ما ارتكب من هذا الانسان المبجل، فلما هبطوا يثرب نقم على ابن مسعود من نقم على أبي ذر، فحسب ذلك الواجب الذي ناء به ابن مسعود حوبا كبيرا، حتى صدر الأمر بجلده أربعين سوطا، وذلك أمر لا يفعل بمن دفن زنديقا لطم جيفته فضلا عن مسلم لم يبلغ مبلغ أبي ذر من العظمة والعلم والتقوى والزلفة، فكيف بمثل أبي ذر وعاء العلم، وموئل التقوى، ومنبثق الإيمان، وللعداء مفعول قد يبلغ أكثر من هذا. أي خليفة هذا لم يراع حرمة ولا كرامة لصلحاء الأمة وعظماء الصحابة من البدريين الذين نزل فيهم القرآن، وأثنى عليهم النبي العظيم ؟ وقد جاء في مجرم بدري قوله صلى الله عليه وآله وسلم لما قال عمر: إئذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه: مهلا يا ابن الخطاب إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: إعملوا ما شئتم فإني غافر لكم (1) واختلق القوم حديثا لإدخال عثمان في زمرتهم لفضلهم المتسالم عليه عند الأمة جمعاء، كأن الرجل آلى على نفسه أن يطل على الأمة الداعية إلى الخير، الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، بالذل والهوان، ويسر بذلك سماسرة الأهواء من بني أبيه، فطفق بمراده، والله من ورائهم حسيب. والمدافع إن أعوزته المعاذير تشبث بالطحلب فقال: (2) حداه إلى ذلك الاجتهاد. ذلك العذر العام المصحح للأباطيل، والمبرر للشنايع، والوسيلة المتخذة لإغراء ________________________________________ (1) أحكام القرآن 3: 535. (2) راجع التمهيد للباقلاني ص 221، الرياض النضرة 145 26، الصواعق ص 68، تاريخ الخميس 2: 268. ________________________________________