[2] (د) الاسلام وتفرقت ؟ وماذا حدث في عصورها من حروب وأعمال ؟ وكيف زالت تلك الدول وحل محلها غيرها ؟ وماذا أدى كل منها من الخدمات إلى الحضارة الإسلامية وإلى الذين شادوا بنيانها ورفعوا منارها ؟ ويهمه أن يعلم ما هي عوامل السرعة في الفتوحات واتساعها وانتشار الاسلام بيد الأمم والشعوب على اختلاف مللهم و نحلهم ؟ ولماذا بدأ الاختلاف بعد وفاة الرسول الأعظم وأبعد بنو هاشم عن حقهم ؟ ويهمه أن يعلم ما هي بواعث الانحطاط والانحلال في المسلمين حتى أصبحوا على ما هم عليه ؟ وما هي الطرق المؤدية إلى وحدة كلمتهم ونهضتهم دينيا، وسياسيا، و اقتصاديا، وأدبيا، وعلميا ؟ وهل يمكن تدارك ما فات بالرجوع إلى ما كتبته التواريخ القديمة والاعتماد عليها ؟ أم يجب البحث والعمل والانصراف إلى التحرى والاستقراء بتجرد ونزاهة ؟ حتى يمكن الاستنباط والتحقق من العلل، واستخراج الأسباب، وبيان ما يجب أن يتهيأ له الجيل الجديد للأخذ بمقومات العلم والنهضة والتمسك بالمثل العليا التي تمثل لنا مبادئ الرسوم، وسيرته وتعاليمه، وتعاليم من ساروا سيرته. وعملوا بهديه، واستناروا بنوره، وكانوا مصابيح الشريعة، وسند الحق، وكعبة الحياة السعيدة، ومثالا للزهد والتقوى. إنني لأرى - وأنا الواثق بأن مثل هذه الدراسة وهذا النهج القويم هو خير ما يجب على رجال العلم والدين والاصلاح السعي لتحقيقه وإبرازه إلى حيز الوجود - إن في كتابكم " الغدير " الذي أخرجتموه إلى العالم الاسلامي ما يثبت لنا فائدة هذه الدراسة على هذا الطراز العلمي، وفيه ما يحقق لنا حقيقة تاريخية لم ينصف المؤرخون في روايتها بإجماع كما حدثت، بل تناولها بعضهم بالاثبات وبعضهم بالنفي، وهنالك من رواها بالزيادة أو النقصان، ومنهم من نقلها محرفة، ومنهم من ذكرها دون اهتمام، كأنها قضية لا يتوقف على صحتها والعمل بها سلامة البداية وخلود النهاية، فمر بها مرور الغافل، أو الجاهل، أو المغرض. وفي كل ما حدث بقي العالم الاسلامي بعيدا عن فهم الحقيقة حقيقة الحدث التاريخي الذي لو عمل به صحابة العهد النبوي، ونفذ ما جاء في الوصية حسبما أراده الرسول الأمين، والمؤسس الأعظم ما وقع ما وقع، وأصاب المسلمين ما أصاب من بلاء ________________________________________ (ه) الشقاق، وشقاء الاختلاف، ولبقيت وحدة المسلمين متماسكة الحلقات، سليمة من النوازع والرغبات، وسارت الخلافة تحفها مواكب النصر، وتظلها أعلام الهدى والرشاد في طريق القوة والاجماع، كما رسم خططها الرسول، فلا يتولاها إلا ذو استعداد، وكفاية، وعلم، وإرادة، وشجاعة، وقوة، وحزم، وثبات، إدراكه إدراك صحيح لسياسة الشريعة، وحكمته حكمة عادلة تجمع بين الدين والدنيا، وخلقه خلق النبوة، وسيرته سيرة المصلح، وهديه هدي القرآن، وحياته حياة الزاهد في حطام الدنيا وزينتها ولذاتها، وعمله عمل الحق والرحمة والمحبة، وسيفه سيف الحكيم الخبير بمواطن الداء، وحكمه حكم القاضي الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، ويده يد الجبار على الظالم، ويد الرحيم مع الضعيف، وعلمه الذي يقيس القضايا بمقاييس العقل والحق والصالح العام، والتجرد عن كل ما يخالف أمر الله، يريد وجهه في كل عمل وقول. أما والواقع كان خلاف ما يجب أن يكون، وحدث ما ليس في الحسبان، وأضاع العرب الفرصة والزمان، وخسر المسلمون رجالاتهم وقوتهم وهم في أول نشأتهم في منابذات ومنازعات، ما أغناهم عنها ! ولولاها لدوخوا العالم، ودكوا العروش، ونشروا ألوية السلام في أقل من نصف قرن، ولبسطوا سلطانهم على العالم، وأسسوا هدى شريعتهم دون عناء. أما وقد انطوت أحداث التاريخ على ما لا يحمد وما يحمد خلال تلك القرون فليكن لنا منها عبرة وبعث ينشطنا إلى بسط الحقائق، وربط الوقائع، وبيان العلل والأسباب، وكشف النتائج معتمدين على منطق العلم والعقل والتجارب، ومنهج جمع الشمل، ولثم الجروح حتى لا تشوب مباحثنا شائبة الزيغ أو التقصير أو الاهمال، فنطهر سيرة ذلك الوصي الذي عاش لله ودينه، واستشهد في سبيل إعلاء كلمته والدفاع عن حقه، وناصر ابن عمه بروحه وجسمه وطاعته وولائه، وبذل جهده وإخلاصه ونفسه للذين تولوا أمور المسلمين على أن يكونوا لدين الله ناصرين، وبكتابه عاملين، ولرعيته راعين، ولتعاليمه حافظين، ولرسالته مؤيدين، ولهديه تابعين. كان في عبادته وأخلاقه وأعماله مثلا أعلى لما رسمه الاسلام لتابعيه، وكان ________________________________________ (و) سيد الفصاحة والبلاغة، وباب العلم والاجتهاد، وسيف النبي على الأعداء، وصاحب الإرادة التي لا تلين لمطمع أو غاية، والإمام الورع كرم الله وجهه وطهره وآله وعترته من الرجس وعصمهم عن الزيغ، وأوجب عباده محبتهم، ووهبهم جمال الخلق، وصفاء السريرة، وحسن الطوية، وعفة اليد واللسان، وحباهم بالصبر والثبات. أما والعالم الاسلامي اليوم لفي حاجة إلى إبراز ما منح الله تلك الشخصية الفذة من الصفات، والمزايا، والفضائل، والسياسة، والتدبير، لتكون رائد المؤمنين في حياتهم أينما كانوا وحيثما تولوا، يتبعونها بروحهم وأفكارهم، فينالهم الشفاء، وتنفحهم الهداية بنعمائها ونفحاتها العلوية، فتنقى أرواحهم وقلوبهم من أدران المدنية الكاذبة، وتصفى عقولهم من هواجس الشك ونزوات الالحاد، فإن كتاب " الغدير " وما فيه من سنة، و أدب، وعلم، وفن، وتاريخ، وأخلاق، وحقائق، وتتبعات، وأقوال، لجدير بالاطلاع عليه والاحاطة به، وخليق بكل مسلم اقتناؤه، فيعلم كيف قصر المؤرخون، وأين هي الحقيقة، وبذلك نتفادى نتائج التقصير والاهمال، وننال الأجر والثواب في إقرار الحقائق واتباع الأوامر، وجمع الكلمة، وتوحيد العقائد والمذاهب، وإجماع الرأي، لعلنا ننهض وينهض من آلمهم ما وصل إليه المسلمون، ويستيقظ الجميع وقد عاد إليهم رشدهم وعزهم وقوتهم وما ذلك على الله بعزيز. أبارك عملكم، وأشكر هديتكم، وأرجو دوام سعيكم، ولسيدي الأستاذ الجليل أن يتقبل احترام أخيه وتمنياته بدوام صحته، وأن يتفضل بإعلامه عن وصول هذا المقال، وله من الله الجزاء الأوفر إنه على كل شيئ قدير، والسلام عليكم و رحمة الله وبركاته بدءا وختاما. المخلص الدكتور عبد الرحمن الكيالي حلب في 18 محرم الحرام عام 1373 المصادف 26 أيلول عام 1953 ________________________________________