[57] قال: لست أجد القلب يعلم شيئا إلا بالحواس. قلت: أما إذا أبيت إلا النزوع إلى الحواس فإنا نقبل نزوعك إليها بعد رفضك لها ونجيبك في الحواس حتى يتقرر عندك أنها لا تعرف من سائر الاشياء إلا الظاهر مما هو دون الرب الاعلى سبحانه وتعالى، فأما ما يخفى ولا يظهر فلست تعرفه. وذلك أن خالق الحواس جعل لها قلبا احتج به على العباد، وجعل الحواس الدلالات على الظاهر الذي يستدل بها على الخالق سبحانه، فنظرت العين إلى خلق متصل بعضه ببعض فدلت القلب على ما عاينت، وتفكر القلب حين دلته العين على ما عاينت من ملكوت السماء وارتفاعها في الهواء بغير عمديرى ولا دعائم تمسكها، لا تؤخر مرة فتنكشط، ولا تقدم اخرى فتزول، ولا تهبط مرة فتدنو، ولا ترتفع اخرى فتنأى، لا تتغير لطول الامل (1) ولا تخلق لاختلاف الليالي والايام، ولا يتداعى منها ناحية، ولا ينهار منها طرف، مع ما عاينت من النجوم الجارية السبعة المختلفة بمسيرها لدوران الفلك وتنقلها في البروج يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر وسنة بعد سنة، منها السريع ومنها البطئ ومنها المعتدل السير، ثم رجوعها واستقامتها وأخذها عرضا وطولا وخنوسها عند الشمس وهي مشرقة وظهورها إذا غربت، وجري الشمس والقمر في البروج دائبين لا يتغيران في أزمنتهما وأوقاتهما، يعرف ذلك من يعرف بحساب موضوع وأمر معلوم بحكمته، يعرف ذووا الالباب أنها ليست من حكمة الانس ولا تفتيش الاوهام ولا تقليب التفكر، فعرف القلب حين دلته العين على ما عاينت أن لذلك الخلق والتدبير والامر العجيب صانعا يمسك السماء المنطبقة أن تهوي إلى الارض، وأن الذي جعل الشمس والنجوم فيها خالق السماء، ثم نظرت العين إلى ما استقلها من الارض فدلت القلب على (2) ما عاينت فعرف القلب بعقله أن ممسك الارض الممهدة أن تزول أو تهوي في الهواء، أو هو يرى الريشة ترمى بها فتسقط مكانها وهي الخفة على ماهي عليه هو الذي يمسك السماء التي فوقها وأنه لولا ذلك لخسفت بما عليها من ثقلها وثقل الجبال والانام والاشجار والبحور والرمال، فعرف القلب ________________________________________ (1) الاجل خ. (2) إلى خ. ________________________________________