وبقيت تتجرّع إلى منتهى الحياة. ومع ذلك فلم نرها تستعين على شدّة دهرها ولأوائه بمال تملكه، أو مال ترجو أن يكون ملك يمين، إنّما رأيناها ـ المرّة بعد المرّة ـ عن طعامها وطعام أُسرتها لفقير أو مسكين أو عابر سبيل، ثم تبيت ومن معها الليلة والليلتين والثلاث، على طوىً وجوع. فإذا كانت حاورت أبا بكر في «فدك»، وألحّت أنّها لها ـ بحكم النحلة أو بحكم الميراث ـ فذلك لأنّها لها حقّ، والحقّ واجب النفاذ والاتّباع، وعندها من القوة الإيمانية ما يجعلها تسعى حثيثاً إليه، وتتشبّث به، وتخرجه إلى دائرة الأداء دون تردّد ولا تفريط. وعندما انطلقت آخر مّرة لمطالبة الخليفة به، كانت تعلم أنّه لن يغيّر اتّجاهه، ولن يَهِنُه من إصراره، ولن يلين كثيراً ولا قليلاً من صلابة العناد التي عرفتها وعرفها الناس فيه. ومع ذلك انطلقت ... وما عليها لو أبى، وألقى إليها معاذيره؟ وما عليها أيضاً لو أنّها حاجّته مرّةً ومرّات فلم يستجب، ثم ردّها بصفقة المغبون؟ إنّها اذن ستكون أدّت ما عليها لله، وغرست في أرواع الأجيال الثبات كيف يكون، وأبقت على الزمن قضيتها قضية نضال. فلقد كانت موقنة أنّ «فدك» لها بحقّين: حقّ بمقتضى نحلة الرسول، وحقّ بمقتضى شرعة المواريث في محكم التنزيل. وإذا تحدّث القرآن فقد تحدّث الله، وإذا تحدّث الله فلا مجال بعد حديثه لحديث، فكلته سبحانه هي العليا، وحكمه هو الفيصل ... ثم لا مراجعة عليه ولا تعقيب. * * *