وقد حفظ القرآن الكريم وهو صبي، كما أخذ يتقن تفسيره، ويحفظ الأحاديث والسنّة من أواثق مصادرها عن آل البيت. وكان عصر ذلك الإمام قد شهد التوتر والنزاعات السياسية التي راح ضحيتها العديد من آل البيت. كما كانت الدولة الأموية تضع العيون والجواسيس على آل البيت منذ استشهاد الإمام الحسين، فقد كانت تضطهدهم، وتخشى أن ينهض واحد منهم لينتزع الخلافة. وكان الإمام جعفر، منذ رأى بطش الحكّام بآل البيت وأنصارهم، وبالباحثين عن الحقيقة، وبمقاومي الاستبداد، قد أخذ بمبدأ التقية، فلم يجهر بالعداء لبني أُمية; اتّقاء شرّهم، وحذر الفتنة. ورأى أنّ خير ما يقاوم به البغي هو الكلمة المضيئة التي تنير للناس طريق الهداية. وكان قد اختار العراق مقاماً له بعد ما ترك المدينة; أملاً في توصيل علمه وأفكاره إلى قطاع عريض من المسلمين هناك، وللبلاد التي حولها. ولكن هذه الأفكار لم ترق لخلفاء بني العباس... فطلب منه الخليفة المنصور ـ وهو الخليفة الثاني من خلفاء الدولة العباسية ـ أن يغادر البلاد! فتركها وهو في سنّ الخامسة والستين من عمره إلى المدينة... حيث عاش حتّى مات ودفن هناك. وقد اعتبره المؤرّخون إمام الشيعة وشيخ أهل السنّة، لما تركه وراءه من ثروة من الفقه والعلم والتأمّلات[612]. وإذا كان ما سبق ومرّ علينا من كلمات هي بحقّ تعبير عظيم عن إمام اجتهد كثيراً في الله، بما أُوتي من علم وفقه حتّى صار أحد أئمة الفقه الإسلامي..