* مشهد ثان موكب السبايا الكريمات، عرض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يسقن إلى الكوفة، إلى بيت الإمارة، الذي كان يسكنه الإمام علي وهو أمير للمؤمنين، وعنوان للحكم الإسلامي كما ينبغي. المسكن الذي شهد زينب عزيزة دارسة للحكمة على يد النموذج الإسلامي الفذّ، الذي ربّاه ونشّأه الرسول المفدّى بخلق القرآن، ومثل الإسلام: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في وجهه! يجلس مكان الإمام علي بن أبي طالب ـ الذي لا يخشى في الله لومة لائم ـ أنجس أهل الأرض طرّاً: عبيدالله بن زياد. مفتون جلف، وغد مغرور، لا يرعى في المسلمين إلاًّ ولا ذمّة، نسي الله فأنساه نفسه، خلقه الله إنساناً، فجعل نفسه بهيمةً لا ترى إلاّ شهوتها في يد صاحبها: يزيد بن معاوية، فلا تبلغ إلاّ وجهته. رأس الحسين بين يدي هذا العبيدالله بن زياد، جمار نار لم يستشعر سعيرها بعد، بل يرتاح للطمها والعبث بها! وكلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) معلّقة بقلوب السبايا: «إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور!». لكن ها هو ذا الكلب العقور يمثّل بابن الرسول (صلى الله عليه وآله)! من وجوه السبايا يبرز ـ في لقطات قريبة متعاقبة ـ وجه زينب بنت علي، أُخت الحسين، تخطّت الخمسين من عمرها، وصوت الحسين الأخير ما يزال في أذنها: «يا أختاه! لا تنسيني في نافلة الليل... يا أُخية: لا يذهبنّ بحلمك الشيطان!» ثم وجه الرباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين، على مشارف الثلاثين، وصوت الحسين في أذنيها: «إنّي أقسم عليك فأبري قسمي: لا تشقّي عليَّ جيباً، ولاتخمشي عليَّ وجهاً!» ثم وجه كالزنبقة المتفتّحة، تخضله الدموع ويرهقه الفزع، ويمنعه الإباء عن الانكسار أو الانهيار، هو وجه الصبية الوضيئة: سكينة بنت الحسين، في ربيعها الثالث عشر، مثلها لا يراها رجل إلاّ من محارمها أو زوجها، مثلها يظلّ وجها سرّاً،