فلمّا ماتت قدم في ذلك اليوم، وهيّأ لها زوجها تأبوتاً وقال: إنّي لا أدفنها إلاّ بالبقيع، عند جدّها المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتعلّق به أهل مصر، وسألوه بالله عزّوجلّ أن يدفنها عندهم، فأبى، فاجتمعوا وذهبوا إلى عبدالله بن السري([497]) ; أمير مصر، وتوسّلوا به إلى إسحاق بأن يدفنها عندهم، وأن يرجع عن عزمه، وخاصّةً أنّها حفرت قبرها بيدها في دارها، فسأله الأمير في ذلك، وقال له: بالله لا تحرمنا من مشاهدة قبرها، فإنّا كنّا إذا نزل بنا أمر جئنا إليها في دارها في حياتها نسألها الدعاء، فما تنتهي من دعائها إلاّ وقد كشف الله عنّا ما نزل بنا، فدعها لتكون في أرضنا، فإذا نزل بنا أمر جئنا إلى قبرها فسألنا الله تعالى عنده، فأصرّ على نقلها، ولم يرض ما طلبه القوم وما عرضه الوالي. فجمعوا له مالا جزيلا وسق بعيره الذي وفد عليه، وسألوه البقاء، فأبى، فباتوا في ألم عظيم وهمٍّ مقيم، وقد تركوا المال عنده، فلمّا أصبحوا جاءوا إليه فوجدوا منه مالم يروه من قبل، فإنّه أجابهم عن طيب خاطر إلى دفنها عندهم، وردّ عليهم ما لهم، فسألوه عن ذلك، فقال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام، وقال لي: يا إسحاق، ردّ على الناس أموالهم وادفنها عندهم، ففرح القوم وأخذوا يكبّرون. ولمّا توفّيت اجتمع الناس من القرى والبلدان، وأوقدوا الشموع تلك الليلة، وسُمع البكاء عليها من كلّ دار بمصر، وعَظُم الأسف والحزن عليها، وصلِّي عليها بمشهد حافل، ودُفنت بالمكان الذي حفرته([498]). وكان يوم دفنها يوماً مشهوداً، ازدحم فيه الناس ازدحاماً شديداً، وأخذوا يزورون