يعطي الله تعالى وليّاً من أوليائه كسرة خبز أو شربة ماء، أو يسخّر له كلباً أو ذئباً، أو يطوي له أرضاً، ويقرّب منه بعيداً ؟ خامساً وأخيراً([408]): فإنّ الكرامة مبنية على القوانين العقلية الحكيمة، فإنّ جوهر الروح ليس من جنس الأجسام الكائنة الفاسدة، المتعرّضة للتفرّق والتمزّق، بل هو من جنس جواهر الملائكة وسكّان عالم السماوات، ونوع القدّيسين المطهّرين، إلاّ أنّه لمّا تعلّق بهذا البدن، واستغرق في تدبيره، صارت في ذلك الاستغراق إلى حيث نسي الوطن الأول والمسكن المتقدّم، وصار بالكلّية متشبّهاً بهذا الجسم الفاسد، فضعفت قوّته، وذهبت مكنته، ولم يقدر على شيء من الأفعال العظيمة. أمّا إذ استأنست بمعرفة الله ومحبّته، وقلّ انغماسها في تدبير هذا البدن، وأشرقت عليها أنوار الأرواح السماوية العرشية المقدّسة، وفاضت عليها من تلك الأنوار أضواؤها القدسية، قويت على التصرّف في أجسام هذا العالم، مثل قوّة الأرواح الفلكية على هذه الأعمال، وذلك هو الكرامات. وفيه لمحة رائعة، وهو: أنّ الأرواح البشرية مختلفة بالماهية، ففيها القوية والضعيفة، وفيها النورانية والحالكة، وفيها الصافية والكدرة، وفيها الحرّة والمستعبدة، وفيها العزيزة والذليلة. والأرواح الفلكية أيضاً كذلك، ألا ترى إلى جبريل (عليه السلام) كيف قال الله تعالى في وصفه:(انّه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين)([409]). وقال في قوم آخرين من الملائكة:(وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً)([410]). فكذا هاهنا، فإذا اتّفق في نفس من النفوس كونها قوية القوة القدسية العنصرية، مشرقة الجوهر، علوية الطبيعة، ثم يضاف إليها أنواع الرياضات التي تزيل عن وجهها غبرة عالم الكون والفساد، أشرقت وتلألأت وقويت على التصرّف.