تعصف بالصبر وتطيش بالألباب.. وهو جهد عظيم لا تحتويه طاقة اللحم والدم، ولاينهض به إلاّ أولو العزم من أندر من يلد آدم وحوّاء. فإنّه (رضي الله عنه) كان يقاسي جهد العطش والجوع والسهر ونزف الجراح ومتابعة القتال، ويلقي باله إلى حركات القوم ومكائدهم، ويدير لرهطه ما يحبطون به تلك الحركات ويتّقون به تلك المكائد، ثمّ هو يحمل بلاءه وبلاءهم، ويتكاثر عليه وقر الأسى لحظة بعد لحظة كلّما فجع بشهيد من شهدائهم، ولا يزال كلّما أُصيب عزيز من أُولئك الأعزّاء حمله إلى جانب إخوانه وفيهم رمق ينازعهم وينازعونه، وينسون في حشرجة الصدور ما هم فيه، فيطلبون الماء ويحزّ طلبهم في قلبه كلّما أعياه الجواب، ويرجع إلى ذخيرة بأسه فيستمدّ من هذه الآلام الكاوية عزماً يناهض به الموت ويعرض به عن الحياة.. ويقول في أثر كلّ صريع: « لا خير في العيش من بعدك »([439])، ويهدّف صدره لكلّ ما يلقاه. وإنّه لفي هذا كلّه، وبعضه يهدّ الكواهل ويقصم الأصلاب.. إذا بالرماح والسيوف تنوشه من كلّ جانب، وإذا بالقتل يتعدّى الرجال المقاتلين إلى الأطفال والصبيان من عترته وآل بيته، وسقط كلّ من معه واحداً بعد واحد، فلم يبق حوله غير ثلاثة يناضلون دونه ويتلقّون الضرب عنه، وهو يسبقهم ويأذن لمن شاء منهم أن ينجو بنفسه وقد دنت الخاتمة ووضح المصير.