معاملة غير المسلمين ومعاملة الاقليات الاسلامية بسم الله الرحمن الرحيم.اللهم صل أفضلالعالمين.اها وأتمها وأرضاها على إمامنا وقائدنا وشفيعنا وحبيبنا ونبينا سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا مباركا فيه كما يرضيك ويرالعالمين.به عنا يا رب العالمين. معاملة غير المسلمين ومعاملة الأقليات الإسلامية من الله العلي الأعلى أستمد العون لتقديم ما يفتح به علي في بسط ما يتعلق بهذا الموضوع الذي دعاني معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة لأسهم به في الدورة السادسة عشرة لمجلس المجمع الذي سينعقد بحول الله بدبي في الشهر الرابع من عام 2005 وينحصر البحث في العناصر الثلاثة التي ضبطتها الأمانة وهي: 1- الأقليات غير الإسلامية في بلاد الإسلام وأصنافها في المجتمع الإسلامي. 2- الأقليات الإسلامية خارج أوطانها. 3- المشاكل التي تواجهها مختلف هذه الأقليات. البحث مرتبط بالأقليات الدينية كما هو واضح من عناصره المذكورة. وإطلاق لفظ الأقليات على وحدة من وحدات المجتمع إطلاق حادث يقتضي أمرين أ ) تحديدا لمفهومه وضبطا لما يقصد منه. ب ) التعرف على الخلفية السياسية الخاصة والدولية التي تولد بواسطتها هذا المصطلح الذي أخذ حيزا كبيرا في وسائل الإعلام، وفي مواقف بعض الدول من الأزمات الداخلية، وكذلك في اتخاذه مبررا للتدخل في الشؤون الداخلية لبعض الدول. معنى الأقلية هو في العربية مصطلح أقره مجمع اللغة العربية وشرحه: الأقلية هي خلاف الأكثرية0 (1) وقد حددتها الموسوعة الفرنسية: إن الأقلية هي مجموعة من الأشخاص تكون جزءا من الشعب، ولكنها تختص باعتقادها أنها تمتلك مقومات ذاتية تختلف بها عن بقية الشعب. وتتنوع الأقليات إلى أقليات لسانية كالكتلان والباسك في إسبانيا، وإلى أقليات دينية كالمسلمين في بلغاريا وإلى أقليات عرقية كالرومس برومانيا(2) فالأقلية ما تحقق في تركيبها العناصر الآتية: أ) تحقق وحدة جامعة بين مجموعة من البشر تظهر كيانها المتفرد الذي تختلف به عن بقية الشعب – ب )أنها تقع داخل حدود وطنية بصفة تكون به جزءا من الشعب – ج – أن ما تتميز به يسمو إلى درجة العقيدة الراسخة أن ما تتميز به يوجب لها الحق بأن تحتفظ به باعتباره المحقق لهويتها. ملاحظة : إن بناء الحق في العصر الحاضر على الأغلبية العددية هو الخلفية التي جعلت مفهوم الأقلية خلاف الأكثرية.لما كان الحكم للأكثرية في صندوق الاقتراع، وهو الذي يحسم الأمر ويفوز صاحب الأكثرية العددية ولو كان تفوقه بنسبة لا تعدو واحدا في الألف بعد الفاصلة – 50، 001 فإن هذا التصور هو الذي جعل الناس يعتقدون أن الأقلية ما يقابل الأكثرية.ولكن الحقيقة هي غير هذا؛ لأن الفوز في الانتخابات هو طريق الوصول إلى الحكم، وتنفيذ الأغلبية ما تراه صالحا بها. فالغاية هي بلوغ القدرة الممكنة من تسيير دواليب الدولة حسب الاستراتيجية ووجهة نظر المتصرف في الحكم، و تهمش الآخر وتفقده الشرعية لاختياراته. ولذا فإنه إذا كانت الأكثرية عددا، مهمشة معزولة عن تنفيذ إرادتها، فهي الأقلية حقيقة. ففي عهد الحماية كان لتونس مجلسان نيابيان: أحدهما للمستعمر الذي يمثل أقلية ضئيلة في التعداد السكاني، وثانيهما تونسي، ولكن التأثير الفعلي على سياسة الدولة واختياراتها هو للمجلس الفرنسي.وكذلك الأمر في جنوب إفريقيا أيام الحكم العنصري. ولهذا فإن الأقلية تأخذ شكلين: تارة تكون عددية، وتارة تكون نتيجة التسلط الظالم على الأكثرية، وسلبها حقوقها وهو ما يمثل إشكالية التناقض بين التنظير وبين الواقع كما يتم في الوجود. إن هذا الصراع بين الأقلية والأكثرية على الاعتبارين يمثل التحدي لقيم العدالة واحترام الإنسان. وأول حقوق الأقليات هو في بقاء هويتها بحمايتها من محاولة سلخها عن مقوماتها التي من حقها الاحتفاظ بها، لتأمن من الذوبان في المتسلط بعدده أو بسلطانه الظالم. الخلفية التي تولد عنها هذا المصطلح كان للحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت أثر في ظهور بنود في المعاهدات الدولية تنص على حماية حقوق كل طائفة لا تمثل الأغلبية في الدولة التي تقيم فيها. و في المؤتمر الذي انعقد بباريس 1856 في أعقاب حرب القرم، تضمنت المعاهدة التراتيبَ الواجب اتخاذها لحماية المسيحيين في تركيا. ثم إنه في أعقاب الحرب العالمية الأولى فرضت معاهدة فرساي تقسيما وتحديدا جديدا لخارطة كثير من الدول، مما تولد عنه وجود أقليات داخل الحدود المفروضة بقوة تلكم المعاهدة. لقد حاولت ( عصبة الأمم) أن تضع نظاما أساسيا يهدف لحماية الأقليات و يحفظ هويتهم الخاصة دون قرارتها.لك على انتمائهم للدولة التي يقيمون داخل حدودها.ولكن هذا النظام لم تكن له الفاعلية المرجوة منه، واغتيل أثره تبعا لعجز عصبة الأمم عن تنفيذ قرارتها. ثم إنه بعد الحرب العالمية الثانية، عاودت حقوق الأقليات الظهور ولفتَ الأنظار إليها في منظمة الأمم المتحدة باعتبار أنها تابعة لحقوق الإنسان بصفة عامة. فاعتمدت حقوق الأقليات على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948، كما اعتمدت على القرارات الصادرة عن اللجنة الفرعية لمقاومة الإجراءات التمييزية والقيام على حماية الأقليات، هذه اللجنة التي تأسست 1947 داخل هياكل لجنة حقوق الإنسان. لقد كان لقراراتها أثر محمود على النطاق العالمي فاستلهمتها بعض الدول فيما يخص تعاملها مع الأقليات، وأمكن بفضل اعتمادها حل بعض المشاكل التي ظهرت داخل حدودها. ولكن تلكم القرارات تبدو غير كافية لأنها لم تتبع بآلية تفرض احترامها وتنفيذها. كما أنه عند التطبيق يلاحظ أن الالعام.التي تدين بها الأمم المتحدة دولة من الدول لعدم احترامها لحقوق الأقليات تكون مرتبطة في كثير من الأحوال بخلفية سياسية ومصالح.وهذا ما أضعف تأثيرها لدى الرأي العام. ثم إن الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان سار خطوة إلى الأمام، وذلك لتضمنه تمكين الأفراد المنفاعليتها.ليات داخل أوطانهم الأوروبية إذا انتهكت حقوقهم، بعد القيام بالإجراءات القانونية في أوطانهم، من رفع قضاياهم إلى المجلس الأوروبي لينصفهم ويحمي هويتهم حماية ينقذها من مخالب التذويب.(3) ولكن هذه التنظيمات داخل المجلس الأوروبي متوقفة على إجراءات معقدة ومكلفة مما يحد من فاعليتها . مـــلاحـــظــة هذه صورة مختصرة عن تطور مبدأ حقوق الأقليات في القرنين الأخيرين. ويتجلى من تتبع هذا الواقع أنه يتجاذبه طرفان: أولهما قيام رجال مؤمنين بالكرامة الإنسانية يبرزون مقتضياتها ويدافعون عنها ويشرحون تفصيلاتها ويقدمون للمجتمع الدولي في مؤسساته الصورة المثلى التي ينبغي أن تكون عليها العلاقات البشرية، ومعاملة الإنسان كإنسان من السلطة التي تحكم المتساكنين في الوطن الواحد. وثانيهما قوى متسلطة لا يهمها إلا بسط سيطرتها على تلكم الأقليات، أو استخدام تلكم المبادئ لأغراض سياسية تمكن لهيمنتها المتغطرسة على بعض الدول لابتزازها، وبالتالي التدخل في شؤونها الداخلية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الأقليات الشاذة المخربة للقيم و للمبادئ العليا للإنسانية تحاول اليوم أن تعتمد هذه المبادئ الرفيعة لحقوق الأقليات لتبرر انحرافها. فقد أخذ ت مثلا جمعيات الشاذين جنسيا، من حقوق الأقليات، غطاء لفسادها وتحصنت بها كقوة تظهر به في العلن مطالبة بأن يكون لها كيانها المعترف به اجتماعيا وقانونيا.وهكذا تتدمر البشرية كلما حلت الرابطة التي تشدها إلى الحق ( الإيمان) ويتعرض الخير إلى انتكاسة ومسخ فينقلب شرا. ومع الواقع المتسلط تقوم أجهزة الإعلام بضجة كبرى منوهة بحقوق الأقليات، وتبالغ في تشويه سمعة من ينتهكها من الدول الضعيفة في ميزان القوى الدولية، فتعد الرأي العام العالمي للانحياز إلى ما ترغب القوى العظمى في تحقيقه من غايات تسلطية بناء على تلكم الانتهاكات المقيتة فعلا، ولكنها تخرس عن كشف الانتهاكات التي تقوم بها الدول القوية وتسلطها على الأقليات داخل حدودها. و إن ما تقوم به إسرائيل اليوم من تمييز بين الوافدين على أرض فلسطين من اليهود من جهة وبين السكان الأصليين، المسيحيين والمسلمين من جهة أخرى، واضطهاد غير اليهودي، والاعتداءات المتكررة على حقوقهم، واعتبارهم مواطنين من الدرجة المنحطة المنبوذة في مرتبة دون اليهود الشرقيين و الفلاشا، لأنهم أقلية داخل المجتمع الذي هودته بالألاعيب السياسية وحرمت السكان الأصلين من العودة إلى ديارهم التي ولدوا وتنفسوا أول هواء تحت سقفها، وإلى أرضهم التي رووها بعرق جبينهم فنشروا فيها مزارع الزيتون والفواكه والقوارص والخضر، وأحبلوها بمتنوع الخيرات، وارتبطوا بها رباطا انتقش به كيانهم الفكري والعاطفي، لَيكشف عن وجه بشع يتولد عنه حتما الكراهية والحقد، وما يتبعهما قطعا من اضطراب الأمن و القضاء على السلام العالمي. وكذلك التحول الذي برز بشكل يدعو للاشمئزاز في الولايات المتحدة عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر.هذه الأحداث التي ما كانت لتقع لولا الانحياز غير المعقول وغير الإنساني من الحكومة الأمير كية لإسرائيل انحيازا احتقن في القلوب حتى انفجر, وهو ما يؤكد ما قلته من أن السلام العالمي معرض للخطر، وسوف يبقى معرضا للخطر ما دامت القوة العظمى الأمير كية ممعنة في جعل الظلم الإسرائيلي عدلا، والحق الفلسطيني ظلما والمدافعين عنه إرهابيين, وما دام التعسف الإسرائيلي وأنياب رئيس وزرائه، ومخالب قواد جيوشه، يقلبها الظلم إلى سلام، ودفاع الفلسطيني عن حقوقه يعتبر إرهابا حتى من بعض من ينتسبون للأمة الإسلامية ويمسكون بمقاليد السلطة السياسية أو القلمية. على أن تقرير تلكم المبادئ يحمل خيرا كثيرا في المستقبل إذا أحسنت الدول الصغيرة التكيف معها باحترامها من ناحية، وبالتوحد لإقرارها واقعيا لمصلحة الإنسان حيثما كان، مع احترام المعايير الأخلاقية. إنه وإن كان هذا الأمل ما يزال بعيدا الآن، إلا أن إعلانه وتذكير البشرية به وغرسه في تربيتها وذاكرتها يجعل الناظر متفائلا غير متشائم من تطور العالم نحو الخير. الأقليات في الإسلام لا يخلو مجتمع من المجتمعات البشرية من وجود أقليات. ولما كان الإسلام دين العدل وكرامة الإنسان، فإنه من أول يوم ظهرت دولته وبرز كيانه السياسي متفردا، راعى حقوق الأقليات. يبدو ذلك واضحا في الوثيقة التي حفظها التاريخ والتي كانت أول ما أعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه إلى المدينة، هذه الوثيقة التي لم يقم أحد بطلبها منه، وإنما كانت السنة العملية للمبادئ التي تقررت في القرآن وفي وحي الله, ضبط فيها صلى الله عليه أعضاء الأمة الإسلامية فوثق ما يلي (بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس) ثم بعد أن نص على الحقوق الخاصة للمهاجرين وللأنصار قبيلة قبيلة، نص على حقوق يهود المدينة فحرر ( وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم). ثم بين حقوق الأقليات اليهودية التي لم تدخل في الإسلام فوثق: وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ [ أي لا يهلك] إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته, وإن جفنة بطن من بني ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشطيبة مثل ماليهود بني عوف, وإن البر دون الإثم. وإن موالي ثعلبة كأنفسهم. إن بطانة يهود كأنفسهم، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمن نفقتهم، وإن عليهم النالصحيفة. حارب أهل هذه الصحيفة.وإن الله على أتقى وأبر ما في هذه الصحيفة – أي إن الله وحزبه على أبر ما في هذه الصحيفة ). (4) وكانت هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من وفد عليه من العرب مبايعا على الإسلام. فقد كان يكتب لكل منهم كتابا هو الوثيقة الضامنة لحقوق المؤمنين والأقليات غير المؤمنة. وتتابعت الوفود سنة تسع من الهجرة التي سميت سنة الوفود. و كان مما حفظ من كتبه صلى الله عليه وسلم ما كتب به إلى ملوك حمير. جاء في كتابه الذي سلمه لمبعوثهم:أنه من أدى ما افترضه الله عليه وظاهر المؤمنين على المشركين، فإنه من المؤمنين له ما لهم وعليه وما عليهم وله ذمة الله وذمة رسوله، وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم. ومن كان على يهود يته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى حر أوعيد دينار واف من قيمة المعافر أو عوضه ثيابا.فمن أدى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن له ذمة الله وذمة رسوله (5) كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا إلى بني الحارث بن كعب بعثه مع عمرو بن حزم الذي وجهه إليهم ليفقههم في الدين، وقد ورد في خاتمته: إنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين له مثل مالهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على نصرانيته أو يهود يته فإنه لا يرد عنها 0 وعلى كل حالم ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار واف أو عوضه ثيابا فمن أدى ذلك فله ذمة الله وذمة رسوله.(6) يتضح بأدنى تأمل أن عهود النبي صلى الله عليه وسلم للداخلين في الوحدة الإسلامية جرت على نمط واحد في الأصول الضامنة لحرية الإنسان وكرامته واحترام حقوقه. أولا : كل من دان بالإسلام وشرح الله صدره إليه يجري عليه ما يجري على كل مسلم سبقه للدخول في هذا الدين فالمسلمون سوا سية. ففي الوثيقة الأولى يؤكد المصطفى صلى الله عليه وسلم: [ بين المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس...... وإن الله على أتقى وأبر ما في هذه الصحيفة] وورد في عهده إلى ملوك حمير أن كل من وفى بمقتضيات الإسلام: [ أنه من المؤمنين له ما لهم وعليه وما عليهم ] وكذلك في كتابه لبني الحارث بن كعب: [ أن من دان بدين الإسلام فهو من المؤمنين له مثل ما لهم و عليه مثل ما عليهم ] ثانيا : أن التسوية التي وردت في جميع النصوص هي تسويه في الحقوق والواجبات. ثالثا : أن العرق أو الدين السابق لا أثر له في التمتع بالحقوق التي تضمنها الدولة الإسلامية لكل فرد من الجماعة الإسلامية. فنص على أن بني إسرائيل والنصارى على مختلف أعراقهم والعرب و كذلك بقية فئات الأديان المختلفة بدخولهم في الدين الإسلامي تذوب جميع أوجه الاختلاف السابقة التي كانت تميز بعضهم عن بعض على أساس من النسب والعرق. فهم بدخولهم في الإسلام يتمتعون بنفس الحقوق ويفرض عليهم نفس الواجبات. ثالثا : أن أصحاب الديانات السابقة إذا هم رفضوا الدخول في الإسلام فإنهم لا يكرهون على ترك دينهم كما جاء في الوثيقة الأولى [ لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يهلك إلا نفسه وأهله ] وكذلك في الوثيقة الثانية:[ من كان على يهود يته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها وعلى كل حالم الجزية ] وبنفس النص صدرت الوثيقة الثالثة. رابعا : أن ما جاء من تفصيل للحقوق والواجبات قد أتبعه بما يضمن تنفيذه. فجميع الوثائق ربطت بذمة الله ورسوله. وسنزيد بيانا لهذا التوثيق التنفيذي. العلاقة بين الدولة الإسلامية والأقليات غير المسلمة تنقسم الأقليات داخل الدولة الإسلامية إلى الأنواع التالية: أولا: من اختار المقام بأرض الإسلام مع الثبات على دينه. ثانيا: من يدخل الأرض الإسلامية بعهد مؤقت. فالقسم الأول هم أهل الذمة. والقسم الثاني هم المستأمنون أو المعاهدون. أهل الذمة قد يكونون: 1) من أهل الكتاب من اليهود والنصارى. 2) أوممن لم يكونوا على دين سماوي ( كالمجوس الذين يثبتون إلهين إله للخير وإله للشر. وتطورت المجوسية عبر القرون فظهرت فيها نحل كثيرة آخرها المانوية <7> 3) أو من مختلف طوائف الكفرة من المشركين وعبدة الأوثان، أوممن ليست له عقيدة أصلا. أهل الذمة : هم الذين اختاروا أن يقيموا داخل الوطن الإسلامي ( دار الإسلام) وعقدت الدولة معهم عهدا يمكنهم من الحرية الدينية وبقية الحقوق ويدفعون للدولة جزية سنبين تفصيل شيء من أحكامها. ويمكن من مزايا هذا العقد أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكذلك المجوس باتفاق العلماء لقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (8) ولقوله صلى الله عليه وسلم في المجوس ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب )(9) ولما أخرجه البخاري أن عبد الرحمن بن عوف شهد عند سيدنا عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر(10) أما بقية الطوائف فقد اختلف الفقهاء في تمكينهم من الدخول في عقد الذمة والذي عليه المالكية أنه يتمتع بهذا الحق كل كافر رضي به سواء أكان من عبدة الأوثان أو كان كتابيا(11)0 معنى الذمة : الذمة العهد، وقال الجوهري أهل الذمة أهل العقد. وقيل الذمة الأمان سمي الذمي لأنه يدخل في أمان المسلمين (12) وقال عياض: وقوله: ( ويسعى بذمتهم أدناهم ) وذمة الله وذمة رسوله وذمتك أي ضمان الله وضمان رسوله وضمانك. (13) إن هذا المصطلح الإسلامي بعيد عن كل حط أو غضاضة وذلك. أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الذمة لكل داخل جديد في الإسلام على أنه في ضمان الله ورسوله يعامل معاملة بقية المسلمين 0 ثانيا: أن الذمة في عرف الفقهاء:الوضع الذي يكون فيه الإنسان موثوقا به في أداء التزاماته. فإذا فلس يقال عنه: خربت ذمته. فصاحب الذمة من حافظ على شرفه واطمأن من يتعامل معه. ثالثا: أنه قد استقر عند الصحابة وجوب الوفاء بعقد الذمة فقد كان مما أوصى به سيدنا عمر فيما رواه البخاري أن لما طلب منه الصحابة أن يوصيهم قال: أوصيكم بذمة الله فإنها ذمة نبيكم (14) وروى أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ظلم معاهدا أو انتقص حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة (15) وبهذا يتضح أن ما يشيعه بعض الحاقدين على الإسلام من أن مصطلح أهل الذمة فيه غضاضة وحط من القيمة الإنسانية، هو تحريف للحق وقصد خبيث لتشويه نصاعة وجه الإسلام الذي أعلن في الكون مبدأه العام من رب العزة لما قال: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)(16). ما يوجبه عقد الذمة عقد الذمة عقد حماية للأقليات في ذوا تهم وأعراضهم وأموالهم. فذوا تهم محمية من كل من يريدهم بسوء، وعلى الدولة أن توفر لهم هذه الحماية وتحقق لهم الأمن يقول القرطبي: ويأخذ الحاكم من قويهم لضعيفهم لأنه من باب الدفع عنهم، وعلى الإمام أن يقاتل عنهم عدوهم ويستعين بهم في قتالهم (17). ولو وقع الذمي في أسر فإن على الدولة الإسلامية أن تفديه ولا ينقلب رقيقا. قال أبو عبيد: وكذلك أهل الذمة يجاهد من دونهم، ويفتك عانيهم ( أسيرهم) فإذا استنقذوا رجعوا إلى ذمتهم وعهدهم أحرارا.وفي ذلك أحاديث: عن عمر بن الخطاب أنه كان في وصيته عند موته: أوصي الخليفة من بعدي بكذا وكذا، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عيه وسلم خيرا، أن يقاتل من ورائهم، وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم. عن إبراهيم النخعي في ناس من أهل الذمة سباهم العدو المسلمون، قال: لا يسترقون. وعن الشعبي أنه سئل عن امرأة من أهل الذمة سباها العدو فصارت إلى رجل من المسلمين في سهمه، قال: أن ترد إلى عهدها وذمتها. وهو مذهب عطاء وعمر بن عبد العزيز والليث بن سعد. ومقابل هذا الأمان، عليهم أن يدفعوا لخزينة الدولة الإسلامية الجزية، كما عليهم أن يمتنعوا من إحداث ما يوجب الفتنة أو الشغب أو يخل بالأمن مما فصله الفقهاء. انظر في ذلك مثلا الأحكام السلطانية (18) يقول الباجي:إن الجزية إنما تؤخذ منهم على وجه العوض لإقامتهم في بلاد المسلمين والذب عنهم والحماية لهم (19) والجزية تفرض على الذكور البالغين الأحرار غير الفقراء.وقد اختلف في مقدارها فأعلى ما قدرت به أربعة دنانير لأهل الذهب وثمانية وأربعون درهما لأهل الفضة، أو ما يساوي ذلك من العروض. (20) تؤخذ منهم مرة كل سنة . وورد في الرفق بهم وعدم إعناتهم آثار كثيرة ختمها أبو عبيد بفذلكة: ذلك أنه إنما يراد بهذا كله الرفق بأهل الذمة وأن لا يصلحه.يهم من متاعهم شئ، ولكن يؤخذ مما سهل عليهم بالقيمة (21) ويقول الزرقاني يؤخذ من الفقير بوسعه ولو درهما، ويسقط عنه ما ليس في وسعه وإن أيسر بعد ذلك لم يؤخذ منه ما نقص لضيقه (22) وكتاب الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عامله على البصرة عدي بن أرطاة يبرز هذا التوجه مسندا له إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.فمما جاء فيه: وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه، وضعفت قوته وولت عنه المكاسب فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه.فلو أن رجلا من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق. وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه, (23) ولا يجب عليهم في بقية أموالهم شئ فلا زكاة على أهل الذمة في شيء من الأموال التي تؤخذ منها الصدقة، العين والحرث والماشية، لأن الزكاة طهرة للمسلمين وأهل الكفر ليسوا ممن يطهر....وليس عليهم شيء غير الجزية لأنهم بها أحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم ما كانوا في بلد عقد ذمتهم وموضع استيطانهم (24) ولا يلزمون بضريبة على تجارا تهم ما داموا ينشطون في أقطارهم التي عاهدوا على المقام فيها. فإن خرجوا من أفق إلى أفق آخر كانتقالهم من مصر إلى إفريقية ألزموا بدفع عشر قيمة ما باعوه إلا إذا حملوا الطعام إلى مكة والمدينة فإنهم لا يطالبون إلا بنصف العشر تكثيرا للأقوات بهما. روى مالك عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة ويأخذ من القطنية العشر (25) المستأمنون المستأمن هو الذي يدخل البلاد الإسلامية من الكفار غير أهل الذمة بأمان تمكنه منه الحكومة الإسلامية فيأمن بذلك على نفسه و ماله الذي معه وكذلك أهله. وللحكومة أن تمنح هذا الأمان للأفراد والجماعات الكثيرة متى كان ذلك مصلحة للأمة ولا يضر بمصالح المسلمين.والأصل في ذلك قوله تعالى ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه )(26) وقد فصل القرطبي الأحكام المستنبطة من الآية ونقل عن مالك أن الحربي إذا وُجد في طريق بلاد المسلمين فقال جئت أطلب الأمان؛ قال مالك: هذه أمور مشتبهة وأرى أن يرد إلى مأمنه. ونقل عن ابن القاسم أن الحكم كذلك في التاجر الذي يوجد بساحتنا فيقول: ظننت ألا تتعرضوا لمن جاء تاجرا حتى يبيع. قال القرطبي: والإجارة لغير من يريد سماع القرآن هي النظر في مصالح المسلمين وما يعود عليهم بالمنفعة (27) وقد أجمع الفقهاء على أن المؤمن المكلف المختار الحر معتبر الأمان الذي يبذله لأفراد حربين. والسند في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ذمة المسلمين واحدة ويسعى بذمتهم أدناهم. (28) ولكن تمكين الفرد المسلم من إعطاء الأمان مقيد بمصلحة الجماعة الإسلامية. ولما نظمت الدول الإسلامية في عصرنا الحاضر طريقة دخول غير المسلمين للأوطان الإسلامية- تحقيقا لأمنها- وضبطته بتراتيب وإجراءات و أوكلته إلى مصالح مختصة فإنه تبعا لذلك لا يعتبر الأمان ماضيا تترتب عليه أحكامه إلا من تلك المصالح المختصة بذلك في الدولة. ما يترتب على الأمان : يترتب على الأمان في الصحيح وجوب الوفاء به و حرمة التعرض للمستأمن في نفسه وماله أو إذا يته من أي عضو من أعضاء الأمة الإسلامية. مدة الأمان : الأمان موقت لا ينسحب على حياة المستأمن على خلاف عقد الذمة. وقد اختلف الفقهاء في أقصى المدة التي تعطى للمستأمن. فبعضهم قصرها على أشهر وبلغ بها بعضهم إلى عشر سنين. ويراعى في المدة التي تضرب له أن تكون مدة يستطيع أن ينهي فيها تعاملاته والتزاماته حسب العرف ولا يتضرر من قصرها.(29) الاستعانة بغير المسلمين في المدونة: قلت: هل كان مالك يكره أن يستعين المسلمون بالمشركين في حروبهم ؟ قال: سمعت مالكا يقول: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لن أستعين بمشرك ) قال: ولم أسمعه يقول في ذلك شيئا.قال ابن القاسم: ولا أرى أن يستعينوا بهم يقاتلون معهم إلا أن يكونوا نواتية أو خدما، فلا أرى بذلك بأسا. مالك بسنده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم قبل بدر، فلما كان بحرة الو برة أدركه رجل كان ُيذكر منه جرأة و نجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال: يا رسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله ؟ قال:لا. قال: فارجع فلن نستعين بمشرك. قالت: ثم مضى حتى إذا كان بالشجرة < ذي الحليفة > أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة.فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:أتؤمن بالله ورسوله ؟ قال: لا قال: فارجع. فرجع. ثم أدركه بالبيداء فقال كما قال له أول مرة. فقال: أتؤمن بالله ورسوله ؟ قال: نعم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:فانطلق.(30) وهذا الحديث رواه مسلم وعلق عليه القاضي عياض مفصلا الخلاف في حكم الاستعانة بهم داخل المذهب وخارجه وعلى القول بالجواز فهل يسهم لهم من الغنيمة أو يرضخ لهم أو يعطون ما اتفق عليه معهم؟ خلاف بين الفقهاء (31). وعلق عليه الإمام النووي بقوله: وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه. فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه. وقال الشافعي وآخرون: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به وإلا فيكره، وحمل الحديثين على هذين الحالين. وإذا حضر الكافر بالإذن رضخ له ولا يسهم له. هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والجمهور. وقال الزهري والأوزاعي: يسهم له (32) أما الاستعانة بغير المسلمين في الحياة المدنية من بيع وشراء وإجارة وكراء واقتراض ونحو ذلك فقد مضى العمل من العهد النبوي بالاستعانة بهم والتعامل معهم، إلا ما نص عليه الفقهاء من أنه في المشاركة لا يستقل الشريك غير المؤمن بالتصرف، لأنه لا يتحفظ من المعاملات المحرمة شرعا. التزامات غير المسلمين في المجتمع الإسلامي كما وضح أعلاه إن المقيمين من غير المسلمين في البلاد الإسلامية هم إما من أهل الذمة وإما مستأمنون. وقد بينا التزام كل نوع منهم. وأنهم إن لم يفوا بما التزموه في عقد الذمة أو عقد الأمان سقطت العقود التي ضمنت بها الدولة الإسلامية حقوقهم. واستثنى الفقهاء من ذلك أنه إذا خرج الذمي إلى أرض العدو نتيجة ظلم سلط عليه ولم ينصف، فإنه في هذه الحالة تبقى للذمي حقوقه التي عاهد عليها.يقول الزرقاني: فإذا منعوا الجزية وخرجوا لدار الحرب كان للمسلمين الرجوع إن لم يظلم، وإلا فإن خرج لظلم لحقه ولو بشك ثم أُخذ فلا يسترق ويرد لجزيته، ويصدق في قوله خرجت لظلم لحقني إن قامت قرينة على ذلك (33). المحور الثاني الأقليات الإسلامية خارج أوطانها أجد صعوبة في هذا المحور لسببين : أولا أن الأقليات الإسلامية ليست هي دائما خارج أوطانها بل عديد الأقليات الإسلامية هي منغرسة في أوطانها. بعضهم كان على غير دين الإسلام فشرح الله صدره للإسلام، وبعضهم ولد ثم قيد في سجلات الدولة التي ولد فيها على أنه مواطن من مواطنيها. ثانيا أن كلمة الوطن وقرنها بالإسلام هو أمر حادث وليس أصليا. ذلك أن مصطلح الوطن هو مصطلح حادث. والمعروف في كتب الفقه الإسلامي هو، إما دار الكفر بما تشمله من دار حرب ودار عهد، وإما دار إسلام. قال الكاساني:لا خلاف بين أصحابنا أن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها. واختلفوا في دار الإسلام بما ذا تصير دار الكفر ؟ قال أبو حنيفة: إنه لا تصير دار الكفر إلا بثلاثة شروط: 1) ظهور أحكام الكفر فيها 2) أن تكون متاخمة لدار الكفر 3) أن لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنا بالأمان الأول وهو أمان المسلمين. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إنها تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر فيها.ثم أخذ يستدل لكل رأي مرجحا رأي أبي حنيفة (34) ورجح في الفتاوى الهندية رأيهما (35) إذن كل مكان استمر فيه جريان أحكام الإسلام هو دار إسلام. وكل مكان لم يدخله الإسلام أبدا هو دار كفر، وكل مكان استحوذ عليه الكفار وتغلبوا عليه من ديار الإسلام فيه الخلاف الذي مر. وكل مكان كان أرض كفر فتغلب عليه المسلمون وأجروا فيه أحكام الإسلام هو دار إسلام بإجماع وبدون أي شرط. كانت دار الإسلام تعتبر وحدة تخول لكل مسلم أن ينتقل بين أقطارها وأن يقيم حيث أراد الإقامة لا يحول بينه وبين ما اختار أي حائل مشروع، ولأعدائهم.ن تولي المناصب العالية كون مولده في أفق بعيد عن البلد الذي تسند فيه إليه الولاية.فالقاضي عبد الوهاب مثلا كان قاضيا بالعراق عند العباسيين، ثم ولي قضاء المالكية بمصر بمجرد قدومه إليها، والحال أن السلطة بيد الفاطميين أعدائهم. وابن خلدون ولد ودرس في تونس وكتب مقدمة تاريخه بقلعة بني سلامة بالجزائر، وانتقل لمصر فولي القضاء. وفي القرن التاسع عشر كان الوزير خير الدين وزيرا لملك تونس، ثم إنه توجه إلى الآستانة فولي الصدارة العظمى. تغيرت الأوضاع العالمية تغيرا كبيرا، وتوزع العالم إلى أقطار، لكل قطر حدوده المرسومة والمثبتة في الوثائق إما سلميا، وإما بواسطة المعاهدات، و قامت حروب في عديد من مناطق العالم على جزء من الأرض تريد كل جارة ضمه إليها، كمقاطعتي الألزاس واللوران بين ألمانيا وفرنسا. و بذلك أصبح الإنسان لا يستطيع أن يهاجر من بلد إلى بلد آخر ولا أن يستقر فيه إلا برضا السلطة التي بيدها الحكم في البلد المنتقل إليه . آثار هذا الوضع العالمي جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فألئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فألئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا(36) اعتمد بعض الناظرين هذه الآية لإيجاب الهجرة على من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه مع المقام في دار الحرب. (37) ولكن الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية نبه على أن حكم الآية انقضى يوم فتح مكة..... ثم قال: غير أن القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظرا في أحكام (وجوب) الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه. وهذه أحكام يجمعها ستة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون في بلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر، وهو يستطيع الخروج. فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية. وضرب لذلك مثلا بهجرة الأندلسيين لما فتنوا فتركوا أموالهم وديارهم وفروا بدينهم. الحالة الثانية: أن يكون ببلد الكفر غير مفتون ولكن يكون عرضة للإصابة في ماله أو نفسه، فهذا عرض نفسه للضر وهو حرام. الحالة الثالثة:أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلا أنهم لم يفتنوا المسلمين في دينهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكن تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له ما يوجب فصل القضاء. وهذا كحال المقيمين اليوم في أوروبا. وظاهر قول مالك أن الإقامة مع ذلك مكروه كراهة شديدة وهو ظاهرا لمدونة. وتأولها كثير من المحققين على الحرمة. الحالة الرابعة: أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون؛ ولا يفتنونهم في دينهم ولا في أموالهم، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى الشريعة الإسلامية، كما وقع في صقلية عندما استولى عليها جرجير النرماني, وكما تم في الأندلس في غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على العهد الذي كتب بينهم، فأقام بعضهم بها على ماتم توثيقه وهاجر بعضهم، ولم يعب المهاجر على القاطن ولا العكس, الحالة الخامسة: أن تكون السلطة العليا بيد غير المسلمين، وتبقى للمسلمين السلطة التابعة ويتصرف ملوكهم في تعيين القضاة وإجراء أمور دينهم وعباداتهم على حكم الإسلام، كالحماية، والوصاية، والانتداب، كما وقع في مصر وفي تونس والمغرب الأقصى وفي بلاد الشام والعراق, وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة. الحالة السادسة:البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام، ولا يجبر فيها المسلم على ارتكابه خلاف الشرع، ولكن لا يستطيع تغييرها إلا بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلا. وهذا قد روي عن مالك وجوب الخروج منها، ورواه ابن القاسم. غير أن ذلك حدث في القيروان أيام بني عبيد ولم يحفظ أن أحدا من الفقهاء الصالحين دعا الناس إلى الهجرة وحسبك بإقامة الشيخ محمد بن أبي زيد وأمثاله. وحدث في مصر أيضا في مدة حكم الفاطميين، ولم يغادرها أحد من علمائها الصالحين. ودون هذه الأحوال الستة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنها مراتب، وإن لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية.(38) بعد هذا الكلام النفيس للشيخ ابن عاشور رحمه الله رأيت لفت الأنظار إلى ما يلي: أولا : ما أشرت إليه سابقا من التنظيمات التي اعتمدتها كل الدول أن حدودها الوطنية لا يمكٌن من الإقامة داخلها إلا بإذن من السلطة، الأمر الذي يوجب مراعاة هذا المعطى الجديد فيكون القسم الأول والثاني داخلين تحت قوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان(39) يقول القرطبي: أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، إلا محمد بن الحسن فإنه رأى أنه يجرى عليه أحكام الكفر في الدنيا. ويستوي الكفر بالقول والكفر بالفعل عند الجمهور المرجحين للأخذ بالرخصة. وهو المروي عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. (40) ثانيا : إنه بناء على أن الأنظمة الديموقراطية تمكن الحزب الذي يفوز بالأغلبية من الحكم. والأحزاب منها العلماني اللائيكي الذي يفصل الحياة عن الدين، وبناء على ذلك فإن الأقطار الإسلامية المعرضة لهذا الأمر نظريا قد تتسع دائرتها. ثالثا : إن الجهاد لنشر الإسلام سبيله في عصرنا هذا مخالطة غير المؤمنين وتبشيرهم بالإسلام. وبهذا يكون المسلم الذي يتمكن من الإقامة في غير بلاد الإسلام ومن قصده أن يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، له شرف الجهاد في عصرنا الحاضر.