المواسعة والمسامحة: آليتان في تدبير الخلاف ـ من أجل استراتيجيا للتقريب بين المذاهب الاسلامية ـ ادريس هاني كاتب وباحث من المغرب ـ مدخل في مناشئ الخلاف لا يخفى على الباحث في التاريخ الإسلامي ، أن الأمة قبل ورود الخلاف ، ونظرا لحداثة العهد بالرسالة ، كانت أمة واحدة . يغلب اتفاقها على اختلافها ، وتماسكها على تفرقها. أو كما جاء وصفها في الذكر الحكيم : " وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون". و قوله :" كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر".على أن الخلاف طارئ جديد ، تراكمت عوامله وتداعياته يوما بعد يوم ، إلى أن أصبح يغتدي من تخلفنا وتقصيرنا في العمل الجاد في سبيل رأب الصدع، وتقريب المسافة بين المذاهب الإسلامية. وانسياقنا وراء عصبيتنا، كل يجر القرص إلى ناره ، وقلما غلب التفكير في مصير الأمة ، والتعصب لقضاياها. وقد يبدو للكثير ممن يصعب عليهم استيعاب هذا التردي والتمزق الذي تعانيه الأمة الإسلامية اليوم ، أن الدعوة إلى إعادة لم الشمل ، لن تكون إلا دعوة طوباوية وخرافية ، بلحاظ التصعيد الذي نعانيه اليوم عنفا وغلبا، وكذلك الارتفاع المسرف في منسوب الصراع والتوتر بين المسلمين .غير أن مقتضى الدعوة إلى لم الشمل والتقريب بين المسلمين في إطار الأخوة الإسلامية ،هو أن ننظر بعين موضوعية وأن نقرأ الأحداث والوقائع تاريخيا وراهنا ، بعيدا عن نزعاتنا وعصبياتنا الطائفية والمذاهبية. بل إن المطلوب ، هو تصميم وإرادة كبيران، على رفع تحديات التمزق والفرقة ؛ وكلاهما يشكل العدو الأكبر للمسلمين.وأن لا نسمح بأن يحجب عنا هذا الوضع الفظيع ، ذلك البصيص من النور المنبعث من الأفق الممتد، الذي لا يزال حقيقا بأمة محمد ـ ص ـ. إن مناشئ الخلاف في التاريخ الإسلامي لم تكن كلها سلبية ، ولا كانت غايات المختلفين حينئذ تتقصد رج الصرح الإسلامي ، أو الإخلال بالنظام العام. بل يتعين على الناظر المحقق أن يفرز بين مناشئ الخلاف الضار ومناشئ الخلاف النافع . فثمة على كل حال، اختلافات تقتضيها الضرورات العلمية وإكراهات الإنسداد واختلاف المباني الاجتهادية. إنها بهذا المعنى مناشئ طبيعية ، استطاع المسلمون من خلالها إنشاء مدارس متنوعة في شتى العلوم الإسلامية، مجسدين بذلك مقتضى ما جاء في الحديث الشريف: "اختلاف أمتي رحمة". فبهذا المعنى يكون الاختلاف العلمي رحمة ، بما يستدعيه من مواسعات علمية وتنوعات في الآراء الاجتهادية إغناء للفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية. وأما مناشئ الاختلاف الضار المذموم الذي عملت فيه شتى العوامل الثقافية والبيئية والنماطية والسياسية ، فذلك هو محور إشكالية رسالة التقريب ، كما نبحثها ويبحثها كل أنصار التقريب. ما الذي جعل الاختلاف المذهبي طائفية عمياء إن الذي جعل الخلاف يبرح دائرة المتطلبات الموضوعية للعلم ليرتد إلى منزلقات طائفية هوجاء ، هو جملة عوامل وليس عاملا واحدا.وقد يكون من السهولة بمكان أن يعلق الإنسان أسباب التناحر الطوائفي على العامل السياسي وحده دون أن يستدعي جملة العوامل الأخرى.وهذا في حد ذاته قراءة واحدية لتاريخ الاختلاف، مجانبة للموضوعية ، القائمة على تعدد المقاربات ، للظاهرة التاريخية والدينية والثقافية عموما. نعم إن العامل السياسي هو علة العلل في عملية التأثير السلبي ذاك.غير أن هناك عوامل أخرى قد تكون ثانوية أو أولية ، لا تقل أهمية عن العامل السياسي.فلا ننسى أن النمط الثقافي والتاريخي في تلك الحقب ، كان قائما على ثقافة العنف والتحكم . فثقافة الاختلاف السعيد واكبت المجتمعات في مراتب تحضرها وتكاملت مع نضج الإنسان الثقافي والاجتماعي والحضاري. وبما أن المسلمين الذين خاضوا في التناحر الطائفي حينئذ لم يفعلوها إلا بعد أن جمدوا تعاطيهم مع التعاليم الدينية الحاثة على التسامح وقيم الصلح والأخوة الإسلامية، فإن خروجا عن مقتضى التعاليم الإسلامية سيجعلهم أكثر استنجادا بالنمط الثقافي والاجتماعي التاريخي القائم على العصبية والغلب واللاتسامح والعنف. فوراء كل شرخ طوائفي كان هناك شعور يقل أو يزيد من العنصرية أو العشائرية أو غيرها من الدعوات التي اعتبرها الإسلام دعاوى جاهلية. فالعوامل قد تكون سياسية وقد تكون راجعة إلى نمطية التفكير في الزمان وفي المكان وفي النموذج المعرفي،وقد تكون أسباب عصبية عشائرية ، ثقافية أو اقتصادية ، أو كل هذا معا أو بعضه. وواجب التقريب قاض بتحليل كل هذه العوامل ، لفهمها ومن ثم تفهمها ، وبعد ذلك البحث في مشاريع حلول لها، إما تخفيفا من وطأتها أو تخلصا مما لا يضر بأصول مذهب قام عنده الدليل على حجيته .فهنا يحضر مفهوم القطع ، بالمعنى الأصولي وليس بالمعنى المنطقي ، من أن القطع حجة على القاطع من أي طريق كان هذا القطع.إن الناظر في مثل هذه المناشئ يدرك أن فراغا كبيرا لا يزال يربض فوق هذه الأحداث، وأن مقاطع ومنعطفات وفواصل من تاريخنا، لا زالت في انتظار المؤرخ الأكثر اقتدارا على التحليل.إن واحدة من عوائق التقريب هو هذا الخوف المخيم على العقول متى ما تعلق الأمر بالتاريخ، وكأن التاريخ علم نهائي يكتب لمرة واحدة. فالأمم المتقدمة والتحولات التي شهدتها الصناعة التأريخية أكدت على أن كل جيل هو مطالب بأن يكتب تاريخه مجددا. فلا مجال للخوف من التاريخ ، ما دام أن أي تجدد في قراءته ، إنما هو حماية واستدامة لمصداقية الحقيقة الإسلامية التي رافقت كل أطواره في حال من المد والجزر، لم يخفي حقيقة الجوهر، ولا وحدة المقاصد المعتملة في ضمير الأمة. فالكل كان طالب نجاة ، والشيعة كالسنة يطلبون النجاة فيما يتعبدون به . فالاختلاف بهذا المعنى ليس نزهة أو لعبة أو هزلا، مادام المتعبد بهذا المذهب أو ذاك ، إنما يتقصد طلب النجاة. وإن حضور الحقائق في هذا الذهن لا يعني حضورها بحجم الوضوح وكثافة اليقين نفسه في ذلك الذهن. من هنا جاءت أهمية الحوار وأهمية الأخلاق في الحوار. فالعلم المجرد من اللياقة الأدبية والأخلاقية ، ثمار شهية مقدمة في أطباق منفرة، كما أن حوارا أخلاقيا بلا علم هو بمثابة ثمار فاسدة مقدمة في أطباق مغرية. والحق ، أن يتزاوج العلم والأخلاق ، وهما تمام الحكمة، لينتجا المطلوب.إن انفتاحا على تاريخنا وإعادة تأمله على أسس علمية دقيقة وروح حوارية بناءة وفي مناخ تسامحي، من شأنه أن يخفف من عقدة التاريخ ، وإحراجاته ، التي هي في الواقع إحراجاتنا نحن من لم يتحمل مسؤولية مواصلة كتابة التاريخ. الأدوار السياسية والعلمية التي ساهمت في التقريب. إن هذا الوضع التشرذمي البائس ، لا يحجب عنا جملة من المبادرات قديما وحديثا ، قام بها سياسيون أو علماء في اتجاه التقريب بين المذاهب الإسلامية.وهي تدابير متنوعة في كياستها ومذاقاتها.ولعل في مقدمة تلك المبادرات التي لا زالت شاهدة على عظمة ذلك الحس التقريبي الذي اعتمل بقوة في نفس كبير مراجع التقليد في زمانه ؛ السيد البروجاردي الذي أمر السيد القمي بتأسيس دار التقريب في مصر ، حيث اجتمع حولها خيرة العلماء من السنة والشيعة، وطوروا رؤى وتقاليد وثقافة تقريبية ، كانت من أهم ما أنجزه المسلمون في القرن الماضي من الميلاد.وقد نهض السيد القمي بمهمة إدارة وتنسيق هذا المشروع ، ما هدأت به نفوس المسلمين وما كان من شأنه لو تواصل بالقوة نفسها والإصرار نفسه أن يزيد في ثمرات التقارب وتجسيد الأخوة الإسلامية.إن أهم ما نهضت به دار التقريب ، إطلاق العنان للأبحاث الجادة في سبيل تعارف أوسع ، فمنحت العلماء فرصة للتلاقي والحوار . وحينئذ بدأت أكثر التخاريف الطائفية المتبادلة تشهد تراجعا لصالح التفهم والتفاهم.أدرك العلماء المنضوون تحت دار التقريب أن هذه الأمة لها جامع يجمعها ، هو اعتقادها في الأصول الكبرى للإعتقاد الإسلامي، فالله واحد ، وما الإخلاف بين الفرقاء في موضوع الصفات ، سوى سعيا منهم للتنزيه. ومع تقدير حصول الخطا في بعضهم دون الآخر من الناحية الكلامية أو الفلسفية ، لا يفسد في الود قضية.إنما كان للسياسة الدور الأكبر في كل أشكال التناحر الدموي الناشئ من الخلافات الكلامية التي هي في نهاية المطاف اختلافات في الصفات لا في الله. وبناء عليه أجمع المسلمون على وحدة القرآن وحفظه ، لم يشد على هذا ذلك مسلم. وما كان بلغنا من قول بعض ممن ينسبون للشيعة بوقوع التحريف أثبتت رسالة التقريب خطأ ما كان يشاع وينتشر بسبب المناخ الطائفي الفاسد.بل مذهب الإمامية على أن القرآن المعتمد عندهم هو هذا الكتاب الواقع بين الدفتين وبه يتعبد كافة المسلمين. ذكر ذلك كل أعلامهم المعروفين كالإمام الحلي ، والصدوق[1]...ووجود روايات في الكافي للكليني ، كان قد أوردها في ما هو في حكم الشاذ النادر ، مردود من جهتين: الأولى كون الشيخ الكليني هو نفسه في مفتتح كتاب الكافي ، جعل عرض ما جمعه من أخبار وفرز صحيحها من غيره ، بناء على قول الرسول الأكرم ـ ص ـ " ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله ، فإن وافقه فخذوا به ، وإن خالفه فاضربوا به عرض الحائط"، في عهدة القارئ. فكيف إذ ذاك يدعوا للعرض على كتاب الله وهو يؤمن بالنقيصة فيه.هذا مع أن ما جاء في باب فضل القرآن وفضل حفظه وقراءته والرجوع إليه من نفس الكافي ، يعزز عظمة الكتاب واستمراريته محفوظا وموحدا بين المسلمين[2]. وأما من الناحية الثانية ، فإن ورود ما تراءى شاذا في مثل هذه المجاميع ، إن ثبت حقا مخالفته لمعلوم من الدين بالضرورة واستعصى حمله على ما يتحمله من معاني أخرى أو تعذر الجمع العرفي كما لا يخفى، فإن الشيعة هم أولى بتعديل ما لا يصح. وقد بلغت جرأة الشيعة على كتاب الكافي وهو من أهم مصادرهم الروائية ، ما جعل أمثال البهبودي يكتب مختصرا منه يتخلص من كل ما تراءى في حكم غير الصحيح. ومثل هذا التصرف والأخذ والرد جاري به العمل في دوائر الإجتهاد الشيعي[3] ، حيث الإمامية لا يأخذون أحكامهم مباشرة من هذه المظان ، بما فيها تلك المظان المرتبة ترتيبا فقهيا، مثل كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي. فهذا الكتاب هو نفسه تحول إلى مصدر من المصادر التي يدور عليها اجتهاد الفقيه[4].فالمقلد يتلقى الأحكام من المجتهد المعاصر الحي. وليس في هؤلاء من يؤمن بقطعية الصدور بخصوص الكتب الأربعة التي هي الأصول الروائية الكبرى. فالشيعة ينظرون إليها ككتب معتبرة وليست صحيحية. فهي ، كما يقول السيد أبو القاسم الخوئي : ليست قطعية الصدور[5]. ومثل ذلك أظهرت دار التقريب من خلال كل الأدبيات التي تجلت في إصداراتها من كتب أو مجلة رسالة التقريب، بأن لهذه الأمة نبيا واحدا.ونبوة محمد ـ ص ـ متفق عليها بلا منازع. وكذلك موضوع العدل، وإن اختلفت تفاصيل الرؤية الكلامية والفلسفية ، حول ما إذا كان فعل الله مقيدا بالعدل ، أم أن العدل ما كان مقيدا بفعل البارئ تعالى.ولا خلاف في أصل العدالة.والأمر ذاته بالنسبة للمعاد، ولا وجود بين المسلمين لناكر المعاد.بل حتى أولئك الذين اتهموا بنكران المعاد من الفلاسفة كابن سينا أو ملا صدرا ،لم يكونوا كذلك ،وهي شبهة لا رصيد لها من الواقع ، بل دونها خرط القتاد، فإن القارئ لمتونهم المطلع على مقالاتهم ، يدرك عمق اعتقادهم بالمعاد ماديا وروحيا، فملا صادرا يقف موقفا صارما من ناكري الميعاد الجسماني كما كرر ذلك في أعماله الكبرى كالأسفار ومفاتيح الغيب ، وأما ابن سينا فقد اعتبر أن اعتقاده بالمعاد ، كما في الشفا، تسليما بما جاء به الوحي ، وإن بدا أمرا مستحيلا من الناحية الفلسفية .وتظل مسألة الإمامة كأصل خامس عند الإمامية بخلاف السنة الذين اعتبروها من الفروع.وفي هذا نقاش وتفاصيل نوقشت عبر التاريخ الإسلامي .غير أن ما أظهرته رسالة التقريب ، أن وجوب الاعتقاد بالإمامة ، لا يلزم المخالف.بهذا المعنى هم يفرقون بين ما هو من ضرورات المذهب وما هو من ضرورات عموم الإسلام.ونظير هذا النوع من المراعاة لمقطوعات المذاهب الأخرى ، ما جاء أيضا في مجال الفروع. ومثاله ما جاء في باب قضاء الصلاة، حيث ذكر المصنفون أمثال الشهيد الثاني وصاحب العروة الوثقى عدم وجوب القضاء على من أصبح إماميا وصلى على أحكام وشرائط المختلف في الطهارة والأركان على الإختلاف الإجتهادي المعروف.بل ، إن السني لو أصبح إماميا ، وكان قد أخل بالصلاة على الشرائط والأحكام الاجتهادية السنية ، يجب عليه القضاء، حتى لو طابق ذلك أحكام وشرائط الصلاة عند الإمامية[6].على أن اختلاف الصلاة هنا ليس اختلافا في الركوعات أو السجودات أو القراءات وما دون ذلك ، بل هو اختلاف في بعض الأحكام ، سواء ما بين السنة والشيعة أو بين أئمة المذاهب الأربعة ، كتفاصيل القضاء كما في حال السفر لمن لم يصل الرباعية في محلها، ثم سافر ؛ فهل يقضي قصرا أم يتم، فهذا يتوقف على : هل المعتبر هو الإنشاء بالأمر أم الإمتثال ، وكذلك في حساب السجدتين ، هل الركنية مجزئة بالواحدة أو بالاثنين معا وما شابه ذلك من ضروب الإختلاف في ماهيات الأركان ، خلاف يحدث بين السنة والسنة، وبين الشيعة والشيعة، وهو مجال للإختلاف العلمي والأدلة الشرعية.وقد بات من روائع ما استطاعت دار التقريب أن تنزع إليه تحت ضغط الغيارى على الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب من السنة والشيعة، أن أنجبت الأزهر من فرسان الفقه والفتوى ،من جسدوا أروع معنى الشجاعة في هذا الإتجاه ، لينتصر للوحدة والتقريب ، انتصارا عمليا من موقع الفتوى وزعامة الأزهر ،ومن هؤلاء الشيخ عبد المجيد سليم رئيس لجنة الإفتاء في جامعة الأزهر ، حيث كان من أبرز المتصدين للعمل من أجل إيقاف نزيف الفرقة والتشرذم بين المسلمين.وقد عبر عن ذلك الواقع المزري،قائلا:"ولكن المسلمين لم يلبثوا أن انحرفوا عن هذه السبيل، واتخذوا من خلافاتهم عصبيات جامدة لا تعرف التفاهم ، ولا تنزل على حكم البرهان والعقل، فكانوا باختلافهم المذهبي كالمختلفين في الدين".و حيث أنه أدرك أن هذه الأمة لن تصلح إلا إذا تخلصت من هذه الفرقة، ارتأى أهمية إشراك كل المذاهب الإسلامية والإنفتاح عليها ، وقد عبر عن هذه الحقيقة بشجاعة ناذرة :"ولقد أدركنا في الأزهر على أيام طلب العلم ، عهد الإنقسام والتعصب للمذاهب، ولكن الله أراد أن نحيا حتى زوال هذا العهد، وتطهر الأزهر من أوبائه وأوضاره، فاصبحنا نرى الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي، إخوانا متصافين وجهتهم الحق وشرعتهم اللدليل، بل أصبحنا نرى بين العلماء من يخالف مذهبه الذي درج عليه، في أحكامه لقيام الدليل عنده على خلافه، وقد جريت طول مدة قيامي بالإفتاء في الحكومة والأزهر ـ وهي أكثر من عشرين عاما ـ على تلقي المذاهب الإسلامية ـ ولو من غير الأربعة المشهورة ـ بالقبول ، مادام دليلها عندي واضحا، وبرهانها لدي راجحا ، مع أنني حنفي المذهب(...) وعلى هذه الطريق تسير " لجنة الفتوى بالأزهر " التي أتشرف برياستها. وهي تضم طائفة من علماء المذاهب الأربعة."[7]. وعلى المنحى نفسه جاءت كل البيانات والخطابات التي صدرت من أعضاء جمعية التقريب والمتعاطفين مع المشروع ، كالشيخ محمد أبو زهرة وكيل كلية الحقوق بجامعة القاهرة و الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء والسيد تقي الحكيم وأمثالهم.وقد جاءت فتوى فتوى الشيخ شلتوت التي كان لها وقع كبير في نفوس أنصار الوحدة والتقريب ، فنال بها منزلة في تاريخ التقريب بين المذاهب ما لا يخفى على أهله، وذلك حينما بلغ بالموقف التقريبي منتهاه ، برأيه الفتوائي الذي يعتبرفيه المذهب الجعفري ، من مذاهب أهل السنة التي يجزي التعبد بها. وبعد ذلك كان للجمهورية الإسلامية دورا كبيرا ولا يزال أمامها أدوار أكبر تلعبها في هذا المجال، حيث كان أسبوع الوحدة تجسيدا عمليا ، يستحق أن يسمى بعيد الوحدة والتقريب،والجهود التي يقوم بها المجمع العالمي للوحدة الاسلامية. فهو يترجم طموحا نبيلا كان ولا يزال واحدا من أهم أهداف الثورة الإسلامية في إيران. وكما أن الطرف السني مطالب بتفهم الطرف الشيعي في مختلف ما تعبد به لوجود الدليل ، وعدم اعتبار كل التهم التي راجت في عصور الانحطاط ، كذلك على الطرف الشيعي أن يدرك، بأن قتلة الحسين ليسوا هم أهل السنة.وإن أهل السنة اليوم لو خيروا أن يتبعوا عليا أو معاوية اليوم ، لاتبعوا عليا .وإن ما حدث في كربلاء أمر مرفوض.ومنهم من قتل حبا في أهل البيت.فهاهو ذا المحدث النسائي ، الذي مات من شدة الرفس والضرب الذي تعرض له لما كتب كتابه الشهير : خصائص الإمام علي بن أبي طالب، في الشام.ومع أنه من أهل الصحاح السنية المشهورة ، إلا أنه اعتبر ممن تشيعوا بالحديث.فالنسائي بهذا المعنى شيعي أهل السنة ، بل هو شهيد السنة والشيعة. ولا ننسى أيضا موقف بن حنبل الذي روى الكثير عن فضائل أهل البيت ، بل لا ننسى أن بن حنبل هو أول من أدخل التربيع إلى السنة ، فهو أول من اعتبر علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين بعد أن جرت العادة قبل ذلك على اعتبار الثلاثة فقط.وهو راوي حديث كل نسب وحسب ينقضي يوم القيامة إلا حسبي ونسبي ، وهو راوي حديث من كنت مولاه فعلي مولاه.وغيرها مما لا يصح أن يرويه ناصبي يكن عداءا وكراهية لآل البيت.ولذا تعين إعادة النظر في العناوين، حيث اليوم ، غالبية المسلمين لا يختلفون حول أهمية أهل البيت ، وبما أن أصل التشيع ما هو إلا محبة أهل البيت ، فإن الحب لا يقاس بمقياس واحد، فثمة من يحب قليلا وثمة من يحب كثيرا.فالاختلاف درجي وليس جوهري.بهذا المعنى يكون أهل السنة بما يكنون من محبة لأهل البيت على درجة من التشيع ، والشيعة بما يتبنونه من سنة الرسول ـ ص ـ ، هم من أهل السنة. فالموقف التقريبي يرفض هذا الاختصاص ويعيد طرح التساؤل على مثل هذه العناوين ذات الخلفية التاريخية. في اتساع دائرة المسامحة العلمي تقتضي سياسة التقريب و تدبير الخلاف عناية خاصة و جهدا مكثفا و اشتغالا مستداما، بحثا و تنقيبا على خروم و هشاشات في جدر المذاهب المنيعة، لتأمين فعل التسلل الاجتهادي و الحواري السمح، و لتأمين قدر ممكن من الذهاب و الإياب بينها. فوحده هذا المقام يستدعي هذا النوع من التقليل من مناعة المذاهب و فتحها على عالم الإقباس و المقابسة. ذلك لأن الأصل في المقام، الوحدة و التقارب لا التفرق و التباعد. و في هذا السياق تبدو الدعوة إلى توسيع دائرة المسامحة قائمة، بل هي من قبيل مقدمة الواجب، بلحاظ وجوب وحدة المسلمين و تقاربهم قدر الوسع في أزمنة الحرج و العسر و الخوف على أصول الإسلام و مكتسباته هي أولى في المقام، حيث الوحدة أو التقارب واجب على كل حال. و مقتضى هذه الدعوة، العمل على توسيع دائرة المسامحة في العلوم الإسلامية المشتركة، مادام لم يترتب على ذلك أي كره لتنازل يناقض مقتضى ما تحقق بصارم الأدلة العلمية، أو ما لم يرج صرح القواعد العلمية الداعمة للمباني الاجتهادية الخاصة، و كل ما من شأنه الإيقاع في الحرج و الإشعار بالغلب، فلا يتحقق معه المراد. و قد مارس العلماء ضروبا من المواسعة و المسامحة في معرض المواضعة أو التأصيل أو الاستنباط، بين مختلف المذاهب و المدارس و المباني الاجتهادية الإسلامية. و قد تجلى التسامح في جملة العناوين و المفاهيم و المصطلحات المشتركة و المعتمدة في تداولهم العلمي، و ليس ثمة أبلغ من مثال "الإجماع" في مذهب الأصوليين من الإخوان الإمامية، من حيث أنزلوه منزلة أحد مصادر التشريع في الجملة. ما يوحي باشتراكهم في اعتبار هذا الأصل. هذا مع أنهم احتفظوا في مقام التفصيل بقيد الاشتراط؛ بأن يكون الإجماع كاشفا عن السنة و إلا، لا يعتبر. و لا يخفى بعد هذا القيد الاشتراطي ما في تداول هذا المفهوم من مسامحة.فكان أولى بالواضع إلحاقه بالسنة بدل الإجماع. غير أن كل هذا الإطناب في الإجماع و أنواعه، ما هو إلا مسامحة، عللت بوجوه، منها إرادة الجري على مسمى العامة. و لعل هذا مراد صاحب الرسائل، الشيخ مرتضى الأنصاري، لما اعتبر الإجماع محض مسامحة، و الحديث عن الإجماع المنقول، بمثابة مسامحة في مسامحة[8]. و على هذا المبنى، قامت كل أنواع الاشتراك الاصطلاحي، مسامحة في توحيد المصطلح، و جريا على العام المشهور عند المختلف. و هناك ما هو أكثر مفادا لهذه الحقيقة، ما اصطلح عليه الفقهاء: قاعدة التسامح في أدلة السنن. و مقتضاها القبول بالرواية دون قيد التثبت في سندها مع ضعفها أو عدم ثبوت صحتها – و يدخل في ذلك فتوى الفقهاء، لجنبة أن الأصل في مسلك الفقهاء في الفتوى، انتهاضها على سند روائي – في الموارد غير المتصلة بالأحكام التكليفية، الواجبة و المحرمة مع استحسانها في باب مكارم الأخلاق و ما شابه مما هو في حكم المستحبات و المكروهات. إن قاعدة التسامح في أدلة السنن، مورد من موارد الحضور المشترك و الاستئناس بمرويات المختلف. فإن لم يكن في ذلك فائدة على صعيد الحكم التكليفي و الوضعي، فلنلاحظ الفوائد الأخرى غير التكليفية. فلو كانت الثمرة من تحقق قاعدة التسامح، غير الاستئناس بالمرويات و الرواة من المدارس و المذاهب المختلفة، فقط، لكفى. إن مبدأ التقريب قائم على قاعدة التسامح و مبدأ الأخوة الإسلامية. فهو يتطلب سياسة تعمل على مقتضى الحد الأدنى، و التدرج في الاستئناس، و ليس على مقتضى قاعدة الكل المطلقة؛ أي: أخذ الكل أو ترك الكل. بل تدبير الاختلاف و سياسة التقريب تعمل على مقتضى المبدأ النفعي الاجتماعي و الأخلاقي؛ أي ما لا يؤخذ كله لا يترك كله. و عليه، فإن ثمار قاعدة التسامح في أدلة السنن، ترخي بظلالها الوارفة على المسلمين في مساحة للاستئناس بأسماء الرواة و مروياتهم. فهي إذن تخلق جوا و مناخا مناسبا للتقارب،ولو في دائرة المستحبات والمكروهات ،وكل مجاري قاعدة التسامح المذكورة.ففي هذا الإطار نلاحظ أن تلاقيا ملفتا قام في هذه المساحة، إذ نجد من مختلف المذاهب من اهتم بأعمال وآثار من غالوا في خصومتهم.فالشيعة الذين قد أزعجهم موقف أبي حامد الغزالي في رسالته الشهيرة: الرد على الباطنيين، لم يجدوا حرجا في أن ينفتحوا على كتاب الإحياء ، وبعضهم ذهب إلى وضع شروح على هامشه.فهو كتاب تربوي يدعوا لمكارم الأخلاق ويتعرض لعدد من القيم الدينية والروحية مما هو من مشمولات قاعدة التسامح في أدلة السنن.وهذا يتطلب قدرا من التجزيء في المعاملة.فالموضوعية لا تناط بالأشخاص بل تناط بالموضوعات.لذا سميت موضوعية نسبة للموضوع لا للشخص.فلا يقال إن الشخص الفلاني موضوعي أم لا ، بل الشخص قد يكون موضوعيا هنا و غير موضوعي هناك.فإذا كان المبتغى هو تحري الموضوعية والنظر إلى ما يقال لا لمن يقول،فإن صدور ما من شأنه الإساءة لجهة ما لا يعني خلو أعماله مما هو حري بالموضوعية.بهذا المعنى نستطيع أن نفك عن المكتوب الإسلامي بمختلف مذاهبه طوق الانفعال الشخصي، ونحاول أن نقبض على الموضوعي خلف اللاموضوعي. تأخذ قاعدة المسامحة العلمية في دائرة علم الكلام، مظهرا متقدما، من حيث استنادها و توسلها بتقنية منهجية، قوامها إعادة بناء الموضوع ضمن استراتيجيا دقيقة في إعادة تحرير محل النزاع و تغيير زاوية الرؤية و النموذج المعرفي و أدوات التحليل. مثل هذا حدث كثيرا مع علماء و حكماء، لم يقبلوا بالتحيز الكلامي لآراء ظلت حتى حين محل نزاع بين المعتزلة و الأشاعرة و أهل الحديث. فمن حيث المبدأ العام، رأينا كيف أن نقاشا عاليا حول إشكالية الطلب و الإرادة ، كما بحثه الأصوليون و الفقهاء داخل المدرسة الإمامية، تبنى فيه فريق منهم موقف الأشاعرة، و خالف فيه الأصحاب، تحريا للحجة و الدليل، كما حصل مع كبير المراجع الإمامية في زمانه ، السيد البروجاردي وأيضا الشيخ ميرزا النائني مع تفصيل في المقام[9]. و قد أحدث ذلك نقاشا علميا دار مدار الدليل و الحجة. لم يشعر المنحازون فيه للرأي الأشعري بأي إحساس في الإعراب عن مختارهم العلمي، كما لم يقف المخالفون لهم عند هذا التحيز مؤكدين بذلك على أن دائرة الاجتهاد هي أنسب دائرة للتسامح العلمي. لقد ناقش صدر المتألهين الشيرازي، بعض موارد النزاع الدائر بين المعتزلة و الأشاعرة – كما في مسألة الكلام و القضاء و القدر- معلنا صدق النظريتين معا. حيث أعلن بينهما ضربا من المصالحة، من خلال تغيير زاوية النظر، و التوسل بمنهجية أعمق من منهجية المتكلمين في المقام. و هذا منهج ظهرت أهميته مع الخواجة نصير الدين الطوسي في التجريد، حيث تجاوز إشكالية التحيز، و أخد بمنهجية إعادة بناء الموضوع على أسس و مفاهيم و تقنيات مغايرة[10]. إن قاعدة المسامحة العلمية، تقتضي ثورة منهجية على ضروب الحصر المنهجي، و الانفتاح على تعدد المناهج، و العمل على تطوير مناهج علم الكلام القديم. من أجل مزيد من المسامحة الفقهية المتبادلة لا ينبغي الوقوف عند الحد الأدنى من المسامحة الفقهية المشتركة بين المذاهب، بل يتعين مواصلة فتح دوائر جديدة لهذا الاشتراك الفروعي إلى الحدود القصوى الممكنة. و هو الأمر الذي يتوقف على مقومات ثلاثة : شرط يتقوم بمزيد من فتح باب الاجتهاد. أمل بالمستقبل يتقوم بملاحظة الحاضر. مقاصد ترمي إلى ترسيخ قيم الأخوة الإسلامية. 1/شرط الإجتهاد لا خلاف على أن الاجتهاد هو الطريق الممكن إلى استنباط الأحكام من مواردها المقررة عند فقد الدليل... و ذلك، ما مارسه المسلمون بأشكال و مستويات متفاوتة نزولا عند مقدمات الحكمة الدالة على وجوب الإجتهاد. غير أن القرن الرابع الهجري الذي كان انطلاقة كبرى للمدرسة الإمامية لمزيد من الاجتهاد، ما أدى إلى ثورة معرفية كبرى لا تزال تواصل طريقها بإصرار نحو آفاق أوسع من النظر الفقهي؛ هو نفسه، كان للأسف، قرن توقف الاجتهاد في دائرة الفقه السني، اكتفاءا بالمذاهب الأربعة. نعم لقد شهدت المدرسة السنية شكلا آخر من الاجتهاد الجزئي، لكنه لم يرخص له إلا في حدود و أطر و مقتضيات المذهب بحيث لا تتعدى الاجتهادات في المذهب، المذهب الفقهي نفسه. و هو ضرب من الاجتهاد، لا يبرح مساحة التخريج الفقهي. فالوحدة الإسلامية و التقريب بين المذاهب، يتماشى جنبا إلى جنب مع حركة الاجتهاد. فمتى اتسعت دائرة الاجتهاد الفروعي، تقاربت الأواصر و عم التفهم و التفاهم و تقلصت دائرة التعصب في الاختلاف. من هنا، لا نبالغ، إن اعتبرنا أن فتح باب الاجتهاد هو ضرورة من ضرورات التقريب بين المذاهب الإسلامية. وحدهم المجتهدون يستطيعون خرق الحصون المذاهبية المنيعة، لاقتباس آراء فقهية و تمحيصها و استدخالها ضمن المنظومة الفقهية الخالصة. و إذا كان ذلك قد حصل بالفعل، فهو اليوم أدعى للحصول لتطور وسائل الاجتهاد و تنامي شرائطه المناسبة. و في هذا الإطار، يتعين على المجتهدين، أن يتحرروا من عقدة الاعتراف، و بأن يلتزموا الأمانة العلمية في النقول و إبراز مصادر الإحالات. إن عملية الذهاب و الإياب في موارد الاجتهاد الفروعي داخل مختلف المذاهب الفقهية الإسلامية، يخلق مناخا إيجابيا للأخوة و الوحدة الإسلامية، و يزيد من فرص التقارب و الاستئناس المذاهبي، و هذا رهين بمزيد من العمل المشترك في سبيل إنجاز موسوعة فقهية مشتركة بين كل المذاهب الإسلامية، و تعميق البحث العلمي في دائرة الفقه المقارن، لمزيد من الاستيعاب و الاستئناس و كلاهما ضروري لإنجاز تقارب بين المذاهب في جو من الأخوة الإسلامية و التواصل المطلوب. 2/ الأمل في المستقبل : ليس ثمة داع لهذا الرهاب المزمن الذي غدته أزمنة الانحطاط، و الطغيان السياسي الذي استغل الخلاف المذاهبي بين المسلمين، لمزيد من تكريس التناقض و الخصومة و الاختلاف. إن المتأمل لمسيرة الاجتهاد الفقهي يدرك أن ثمة الكثير من الآراء الفقهية تغيرت في عصرنا –و طبعا لهذا ما يبرره فقهيا-. ففي المدرسة الإمامية، يدرك الفقهاء المعاصرون، كيف أن أحكاما كانت محل إجماع، سرعان ما انقلبت رأسا على عقب، في اتجاه أكثر تسامحا. فثمة مثال علمي حول نجاسة البئر، حيث ظل الموقف الفقهي مجمع على القول بنجاسة البئر لمجرد الملاقاة، و ذلك بناء على إلحاقهم إياه بالقليل. بينما الرأي السائد اليوم بعد صاحب كتاب "الشرائع"، الإمام الحلي، هوالقول بعدم التنجس بمجرد الملاقات، إلحاقا إياه بأحكام الجاري و الكر. و أما من ناحية فقهية اجتماعية، فقد تحول الموقف الفقهي الإمامي، من أهل الكتاب مائة و ثمانين درجة، يوم صدرت فتوى السيد الحكيم بطهارة أهل الكتاب. و دائما كان هناك اجتهاد و آراء تمثل منعطفات في مسارات الفتوى و العرف الفقهي. و قد حدث أن توقف الاجتهاد تلقائيا بعد الشيخ الطوسي لمدة قرن من الزمن قبل أن يرد ابن ادريس الحلي، ليقوم بنقد اجتهادي لكثير من آراء شيخه الطوسي، فاتحا بذلك الباب لاستئناف الاجتهاد، مما أفاض على المدرسة الإمامية من إمكانات اجتهادية ما كان لها بلوغها، لو استمرت على تقليد شيخ الطائفة الطوسي. فالاجتهاد يحرك البنى المذهبية و يجعلها أكثر حيوية و قابلية للفهم و التفهم و التفاهم و التفهيم. 3 /قيم الأخوة الإسلامية مبدأ الأخوة الذي فاضت به التعاليم الاسلامية المتفق عليها من كافة المسلمين ، يعزز مطلب الوحدة والتقارب.لا ، بل إن الأخوة ستكون مستحيلة من دون وحدة، والوحدة لا تتم من دون تقارب.إن مبدأ الأخوة الإسلامية مبدأ عام يشمل كافة المسلمين ، وليس مبدأ مذهبيا أو طائفيا.إنه مبدأ يوسع من آفاق المسلمين ، فيجعل مذهبهم الحقيقي والأكبر هو الإسلام وطائفتهم العظمى هي الأمة.ففي ظل استفحال المشاعر الطائفية والعصبيات المذهبية، تتخلى الفرق والمذاهب الاسلامية عن أنبل ما دعى له هذا الدين، وهي من النعم التي من بها الخالق على هذه الأمة.ومن هنا ، فإن الحديث عن رفع إيقاع المسامحة إلى أقصاه،يسوغه مطلب الأخوة ويوجبه ، لما لها من أهمية على وجود الجماعة المسلمة ولما فيها من محاسن وعظيم الرضوان. التقريب ضرورة إننا نلاحظ أن الخلاف كلما اقترب من دائرة العلماء كلما خف الإنفعال وانخفض منسوب التعصب، اللهم إلا ما نذر.ما يعني أن وراء هذا الاستفحال الفظيع في التصعيد الطائفي ، يكمن الجهل والجهل المركب ، أو استغلال السلط السياسية والمنتفعين من تشتت الكيان الإسلامي ، مثل العدوان الخارجي والاستعمار .وهذا يؤكد على أن المسؤولية ملقاة على عاتق الجميع ، بما أن مناشئ الفرقة ثاوية فينا بقدر ما هي آتية من الإكراه الخارجي.فالنجاح في التقارب والتوحد ، هو في الآن نفسه انتصارا على تخلفنا الجواني ، وانتصارا على خصمنا البراني. فتصبح الدعوة إلى التقريب ، بمثابة الجهاد الأكبر اليوم ، لجهة كونها الرسالة التي تستجمع كل شرائط التربية النفسية والاستعداد الروحي للم الشمل وتقريب المسافات، حيث يتطلب ذلك مزيدا من نكران الذات وأن لا تأخذنا العزة بالإثم، وهو يتطلب قدرا من التسامح وشجاعة في التنازل على كل أمر شخصي، ما سلمت أمور المسلمين.ومن هنا تطرح جملة من الخطوات والشرائط الضرورية لقيام حالة تقريبية في عالمنا الإسلامي، تخطو حثيثا إلى أقصى ما هو ممكن . مقترحات من أجل سياسة تقريبية بين المذاهب الاسلامية تتناما الحاجة اليوم إلى إحداث تغييرات جذرية في برامجنا التعليمية ، والنهوض بحركة إصلاح تكيف التعليم الإسلامي في العالم الإسلامي مع متطلبات التقريب بين المذاهب ، يستند إلى تقنيات تربوية متقدمة ، لأجل تكوين المتلقي المسلم الأكثر تسامحا ، بحيث تدرس مادة التقارب بين المسلمين ، إلى جانب دراسة المذاهب الإسلامية المقارنة. فقد أصبحت الحاجة قائمة إلى تعرف المسلمين على مدارسهم الكلامية والفقهية ، لأجل استيعابها ، ونفض الشبهات عنها ، تكريسا للثقة بين المسلمين.إن جزءا كبيرا من التعصب ناتج عن الجهل المركب بالمذاهب الإسلامية. فالعلم والاستيعاب هو الطريق الأمثل لتحقق الفهم والتفهم للمذاهب المختلفة. حيث كلما اتسعت دائرة الجهل إلا وتقلصت دائرة التفاهم و العفو والمعروف أيضا. فقه التسامح وأخلاقيات الحوار يتعين على برامج التعليم الإسلامية أن تدرج مادة فقه التسامح وأخلاقيات الحوار ، وخلق مناخ مناسب لتلاقي المذاهب الإسلامية ، في مؤتمرات وندواة دورية لا يقطعها فترات وفراغات . إذا كانت لغة التسامح هي لغة العصر بين المختلفين الأباعد ، فهي من باب الأولوية ملحة بالنسبة للمختلفين الأقارب.فالتثقيف على التسامح وأخلاقيات الحوار ، مهمة تتحملها المنظومة التربوية عند المسلمين ، لإيقاف هذا النزيف الطائفي الذي حاد بالاختلاف المذهبي العلمي إلى ما يتهدد التعايش السلمي المشترك بين الفرقاء. ـ يتعين اكتساب الشجاعة الكافية والأخلاق العالية لمعالجة كل أسباب الخلاف ، وفتح أوراش لمناقشة المفكر واللامفكر فيه في مناشئ الخلاف، على أن يتبنى ذلك علماء متخصصون. وفي ذلك ما يفوت الفوضى والمماحكات الطائفية ، لا سيما مع بروز وسائل اتصال متقدمة مثل الانترنيت. فيتعين التقدم بقطار التقريب إلى أبعد مستوى ، وذلك بأن يتفق الفريقان على إصدار فتاوى مشتركة ، وجادة ، تحرم على غير العلماء والمختصين الخوض في الجدل الطائفي من الفريقين.وهذا لا يتحقق إلا إذا خاض العلماء في مسائل الخلاف من مدارك علمية ، تملأ فراغ انسحاب عامة الشباب من الخوض الفوضوي في مجال خطير كهذا. ـ يتعين على العلماء والمؤسسات التقريبية أن تتحرك إلى أبعد من مستوى الدعوة إلى التقريب، بل يتعين أن تتحرك في اتجاه التعبئة للعلماء الذين لم يأخذوا دورهم كفاية في هذا الإتجاه، بل ويتعين عدم التوقف عن مناقشة المناهضين للتقريب ، ومحاولة إقناعهم بأهميته ، والدخول في حوارات معهم ، ومناقشتهم لإفحامهم بضرورته. ـ ينبغي أن تنشأ عن مثل هذه المؤتمرات، لجان متخصصة لمتابعة قضايا خاصة.وذلك بأن تقوم بالدعوة إلى مؤتمرات استثنائية متى ما ظهر ما من شأنه إرباك رسالة التقريب. وأيضا تنظيم مؤتمرات للوحدة متخصصة ، وليست مؤتمرات عامة، بمعنى آخر ، أن تحدد موضوعات من صميم رسالة التقريب ،تتحدد بالمرحلة والظروف والنوازل الراهنة بهذا الخصوص. ـ إن قيام مؤسسات تقريبية مشتركة ، يقتضي تطهيرا للمجال الإسلامي من كل ما من شأنه إرباك رسالة التقريب ، وذلك بواسطة التخلص من الأعمال التحريضية ضد الوحدة والتقريب الإسلاميين ، والتخلص من الكتابات الطائفية الانفعالية التي تحرج المذاهب الإسلامية وتسيئ إلى قيم ورموز المذاهب الأخرى ، على أن تنشأ جهاز رقابة نشط ، وظيفته تتبع كل ما يؤدي إلى التحريض الطائفي . وإذا لم تتحقق هذه المهمة في حق كتب وأعمال كثيرة ، فلا بد لعلماء كل مذهب أن يهذبوا تلك الأعمال ويخلصوها من الجوانب الانفعالية السلبية والإبقاء على الجانب العلمي فيها، ونقد جوانبها الطائفية ، وبيان لا موضوعيتها. ومثل هذا العمل لن ينجح إلا إذا أصبح عملا توافقيا مشتركا . ـ يتعين على الفكر الوحدوي والتقريبي أن يبرح دائرة العلماء والنخب ، والنزول به إلى الجمهور ، لإيجاد عنصر ضغط إضافي من داخل المجتمع الأهلي ، عبر التظاهرات الثقافية والتثقيفية، ولما لا عبر مظاهرات ومسيرات جماهيرية من أجل الوحدة والتقارب .على خطاب التقريب أن يتجاوز مرحلة الدعوة برجاء المطلوبية ، إلى مرحلة الممارسة، عبر خلق وسائل الضغط في اتجاه الوحدة، من خلال دينامية المجتمع الأهلي، وقواه الحية . ـ يتعين أن نأخذ بعين الإعتبار الإستراتيجية الإعلامية الضرورية والمناسبة . فلا قيمة لعمل لا يقيم اعتبارا للبعد الإعلامي. من هنا يبدو النقص بالغا في العمل التقريبي ، حيث من الشاذ الناذر وجود مجلات متخصصة ودوريات تقدم الفكر التقريبي والوحدوي على مدار الحول.فالمطلوب ، أن تنهض سياسة إعلامية بحجم التحديات التي تواجه رسالة التقريب ، بأن ينبثق من مؤتمر كهذا، لجنة ، لنسميها مثلا لجنة الإعلام التقريبي أو إعلام التقريب والوحدة ، تصهر وتدرس إمكانية النهوض باستراتيجية إعلامية كبيرة. وفي مقدمة ذلك ، العمل على إنشاء قناة فضائية تخصص برامجها لرسالة الوحدة والتقريب. ـ يتعين على المؤتمر أن يشترط على كل مشارك أن يؤلف كتابا في الوحدة الإسلامية والتقريب ، بشروط ومحددات مرسومة أو اختيارية. فلو التزم كل مشارك بهذا الإنجاز ، لكان هذا في صالح الرسالة التقريبية والوحدوية في العالم الإسلامي. ما أقترحه هنا ،هو أن رسالة التقريب هي نفسها ليست مجرد انتشاء في مثل متعالية عصية التحقق في الواقع الخارجي لا يسعها إلا ألفاظنا خطاباتنا، أو محض نزهة سهلة المنال أيضا، فمن شأن مشروع جاد كهذا أن يوطن النفس على مواجهة مختلف التحديات التي ستحول دائما ضد تحقق هذا الحلم ، الذي هو حلم المسلمين كافة.إن أهم شرط ، أو لنقل شرط الشروط في موضوع التقريب ، أن لا يحمل أحدنا الطرف الآخر كل نتائج الانحطاط والتشرذم الذي بلغته الأمة المسلمة. ولا يجدي رسالة التقريب نفعا أن يبرء هذا الطرف أو ذاك نفسه من انخراطه أو انجراره أو قبوله أو رضاه أو ميله أو نزوعه ..قليل كان ذلك أو كثيرا، ظاهرا أو باطنا ، واعيا أو غير واعي؛ لما كان من شأنه تشتيت المسلمين وتعميق فرقتهم.بل المطلوب الاعتراف المتبادل ، وتحمل المسؤولية بقدر سواء، والاستعانة على ذلك ببالغ الصبر وأن لا تأخذ بعضنا العزة بالإثم .فكلنا مسؤولون عن الأزمة وكلنا مطالبون بحلها.فلتقطع البنان منا فلا يشار إلى بعضنا البعض كمسؤول وحيد وعنصر دخيل، بل كلنا مسؤول عن تحقيق الوحدة وطلب النجاة من خلالها. ثم إنه لا بد من الإعتراف بأن أتباع كل مذهب هم طالبوا نجاة به.وعلينا احترام كل قاطع بدليله.على أن زمن الإنسداد لا يسمح بأن يكون الحاكم بين المسلمين نبيا. فلنؤجل هذا الحكم الفصل ما استطعنا، ونعمل كما لو كنا جميعا متفقين يعذر بعضنا البعض فيما اختلفنا فيه ، حتى نلقى الله سبحانه،وتظهر حجته البالغة. -------------------------------------------------------------------------------- [1] ـ يقول الشيخ المفيد في الأوائل :" وقد قال جماعة من أهل الإمامية أنه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ولكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين من تأويل.."، أنظر المفيد ، أوائل المقالات ص92 ، دار الكتاب الاسلامي. [2] ـ يقول السيد تقي الحكيم في الأصول العامة ، وهو من أنصار ورجالات دار التقريب بين المذاهب:" مجرد رواية أحاديث النقص وعدم التعقيب عليها ، لا يدل على وثوقه بصدورها، ولعل روايتها في النوادر من كتابه دليل تشكيكه بصدورها وكأنهأشار بذلك لما ورد في المرفوعةمن قولهع:ودع الشاذ والنادر.على أنه التزم في أول كتابه الأخذ بالروايات العلاجية ، وهي التي تتعرض لأحكام الخبرين المتعارضين من اعتبار ترجيح أهمهما على الآخر بعرضه على كتاب الله وسنة نبيه ، فما وافق الكتاب أخذ به.أما الإجماع الشيعي وهو كالإجماع السني في حفظ القرآن وعدم نقيصته"، الأصول العامة للفقه المقارن ، ط3ص110 دار الأندلس /بيروت [3] ـ يقول صاحب الكافينفسه في مقدمة الكافي:"فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء برأيه إلا على ما أطلقه العالم بقوله: اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عز وجل فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه"، الكافيج1ص8، الناشر دار الكتب الاسلامية/تاريخ انتشار:تابستان 1362ه أقول : إن التعاطي بأدوات الجرح والتعديل ، وتقنيات الجمع العرفي عند التعارض ، عملية دائمة في دوائر الإجتهاد الإمامي، فلا يشكل لهم رد الرواية الضعيفة مع ثبوت مدرك ضعفها أو دليل عدم الصحة، لأن مدار الإعتبار ها هنا هو الدليل. [4] ـ نعني أن مدار اجتهاد الامامية اليوم لم يعد هو المظان الإخبارية المبثوثة في الأصول الروائية المشهورة والمعتبرة، بل أصبح من تلك المظان التي تؤخذ بعين الإهتبار والإستئناس في موارد الإجتهاد كتب مثل الوساء\ئل ،للحر العاملي أو الحدائق للبحراني ، بعد أن كانت هي نفسها مستنبطة من تلك المظان. ما يعني أن الاجتهاد ماض ، فما كان غاية المجتهد اليوم غدا يوما ما مظنة المجتهدين. [5] ـ ،انظر معجم رجال الحديث للسيد الخوئي ج1ص235 منشورات مدينة العلم ، ايران ط3-1403ه.. [6] ـ يقول السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي في العروة الوثقى:"يجب على المخالف قضاء ما فات منه أو أتى به على وجه يخالف مذهبه، بل وإن كان على وفق مذهبنا أيضا على الأحوط ، وأما إذا أتى به على وفق مذهبه فلا قضاء عليه.."، العروة الوثقىج1 ص575 ،ط4 انتشارات دار التفسير/اسماعيليان قم –خيبان ارم [7] ـ بيان للمسلمين ، نقلا عن مجلة رسالة الإسلام التي كانت تصدر عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة.،انظر مجلة الكلمة العدد 5 السنة الأولى خريف 1994م/1415 ه . [8] ـ ويعبر الشيخ جواد مغنية عن ذلك مقربا إياها بقوله:"وتسأل : ولكن فقهاء الشيعة قالوا : مصادر الفقه أربعة، وعدوا الإجماع منها إلى جانب الكتاب والسنة والعقل؟ وأجاب الشيخ الأنصاري من سأل هذا السؤال بما معناه أن عد الإجماع مع الأدلة فيه ضرب من التسامح ، لأن الإجماع يكشف ـ مع توافر الشروط ـ عن وجود الدليل ، فيسمى المجموع من الكاشف والمكشوف دليلا."جواد مغنية،علم أصول الفقه في ثوبه الجديد ، ص226 ،ط2-1980 انتشارات مكتبة الزهراء قم –ارم – باساج قدس [9] ـأنظر بهذا الخصوص ، الجبر الفلسفي من منظور علم أصول الفقه، من كتابنا: محنة التراث الآخر، مركز الغدير بيروت-ط1-1998م [10] ـ يمكن الوقوف على مثل هذه النكات في التسامح المعرفي وإعلان المصالحة بين الاتجاهات الكلامية ، بالرجوع إلى كتابنا: محنة التراث الآخر، ط1-مركز الغدير ، بيروت 1998م