ومن الطبيعي أن هذه الحالة من الانصهار قد هبطت بنسبة عكسية مع التوسع الكلي للحوزة، ولم يعد اليوم كما كان قبل خمسين سنة، ولكنها باقية إلى الآن وفاعلة، ومؤثرة، وإن كانت دون الطموح. ويدرس اليوم أساتذة الحوزة طريقة معالجة هذا الهبوط الروحي النسبي في نفوس الطلبة، في ظروف التوسع الكمي الهائل الذي اكتسبته الحوزات العلمية في السنين المتأخرة، وتنعقد لذلك مؤتمرات ولجان عمل لتحقيق الطموح الذي تطمح إليه الحوزة العلمية في أبنائها. وثمرة هذا الجهد التربوي الذي تهتم به الحوزات العلمية، ثمرة طيبة، فقد أنشأت هذه الحوزة عباداً صالحين لله، رزقهم الله حظاً كبيراً من تهذيب النفس وتزكيتها، وأذاقهم حلاوة ذكره، وشغلهم به تعالى عن غيره، (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)، يدخلون معنا في ساحات حياتنا، في السوق، والمدارس، والدوائر، والشوارع، ويعيشون كسائر الناس، إلا أن شيئاً من ذلك لا يشغلهم عن ذكر الله تعالى ويصح فيهم بشكل دقيق حديث الحاضر الغائب، فهم حاضرون في مجامع الناس بأبدانهم وغائبون عنها بقلوبهم حاضرون في مجامع الناس بأبدانهم لأداء المهمات التي ألقاها الله تعالى على عواتقهم، غائبون عنها لأن قلوبهم معلّقة بعزّ قدسه، ومشغولة عن الناس وهموم الحياة بذكر الله، وشغوفة بحب الله، وشائقة إلى لقاء الله وخائفة وجلة من عقوبة الله، ومولهة بجمال الله وجلاله. وأمثال هؤلاء متواجدون في هذه الحوزات، رجالاً ونساء، وشباباً وشيوخاً، لو خليت ـ كما يقال ـ لقلبت ، وليتك تراهم، وهم يقومون بين يدي الله في الأسحار خاشعين للصلاة، فتجري دموعهم على خدودهم وتسمع زفيرهم وانينهم، ونشيج بكائهم، وليتك تراهم وهم سجّداً بين يدي الله يحنّون إلى ربهم حنين الواله المشتاق، وترتعد فرائصهم من خشيته، وتخشع جوارحهم وجوانحهم بين يدي الله رب العالمين … لو رأيتهم في صلاتهم