فنقول: ان فقه النظرية هو عملية استنباط الموقف الفقهي العام تجاه مجال معين من مجالات الحياة، وبلورة المعالجة الإسلامية في صيغة نظرية عامة تكون بمنزلة القاعدة الكلية التي تنبثق عنها الابنية العلوية من الاحكام والقوانين لتنظيم الحياة. وهي علمية يقوم بأعبائها الفقيه، كما يمارس دوره في استنباط الاحكام الجزئية. وتحسن الإشارة إلى بعض نقاط الفرق بين عملية استنباط الحكم الجزئي وبين عملية استنباط النظرية العامة: 1 – ان الواقعة التي يستهدف الفقيه معالجتها تكون جزئية ومحدودة في عمليات الاستنباط التقليدية، بينما يكون افق الواقعة في فقه النظرية اوسع بسعة الواقع ورحيب برحابة الحياة، وهذا يعني أن الفقيه لابد ان ينقح الموضوع الخارجي ويحصل على صورة واضحة حوله مما يتطلب منه انفتاحا على الحياة ومواكبة لحركتها وان يفقه الواقع في المرتبة الأولى قبل ان يشرع في عملية الاستنباط، وكلما كانت الواقعة المراد استخراج حكمها معقدة ومليئة بالملابسات والحيثيات المختلفة كلما تعقدت عملية تنقيح هذه الموضوعة، فمثلا من اراد ان يفتي في مسألة شرعية ذبح الحيوان بالمكائن الحديثة عليه ان يتصور كيف تتم عملية الذبح بالماكنة وماهي الحيثيات المؤثرة في عملية الافتاء، من قبيل امكانية التسمية على كل واحد من الذبائح وعدمه، ومن قبيل امكانية احراز استقبال القبلة وعدمه، ومن ناحية نسبة حركة الآلة القاطعة إلى الذابح وعدمها، ومن ناحية كون الآلة حديدا وعدمه، ومن ناحية اسلام الذابح وعدمه، وغير ذلك من العناصر المؤثرة في عملية الافتاء بالنسبة إلى هذه الواقعة، في حين ان تنقيح الموضوع في عملية الذبح اليدوي خال من هذه الحيثيات. فكلما تعقد الموضوع والواقعة كلما اقتضى ذلك جهدا اضافيا من الفقيه قبل الخوض في عملية الافتاء، فعندما يتصدى للافتاء وتحديد الموقف