الامام القطب: (ومن بلغه حديث فلا يجوز له العمل برأي إلا في تفسير ذلك الحديث أو تأويله)([16]). وليس كما يقول البعض بأن ما تناوله الدليل ولو كان ظنياً يمنع الاجتهاد فيه؛ لأنه قد يكون بالتأويل عند وجود القرائن الصارفة وهذا يعلم بالتأمل في الأدلة لكثرة التعارض الظاهر بينها، فلابد من الجمع أو الترجيح وهما من ضروب الاجتهاد، شريطة التزام الترتيب المنطقي في الأخذ بالأدلة، فان وجد مسلكاً في النصوص سلكه، وان اعوزته انحدر إلى الأقيسة، فان عثر على مغزاه فذلك والا انعطف على انواع الاستدلال. ويسوغ ذلك لمن راض الأُصول وعلم بمنهجية التعامل مع الدليل تطبيقاً لا نظرياً فقط، مع جمعه لخلال الاجتهاد وتصوره لواقعه، وفي هذا الشرط وسابقه يقول الامام أبو مسلم رحمه الله حاثاً على الاجتهاد: (لأن الأخذ بالرأي في موضعه من أهله نوع فرض)([17])، فأشار إلى الأول بقوله: "في موضعه" ونوه بالثاني في قوله "من أهله". وحقيقته لا تكمن في التخلي عن تحقيقات السابقين ونبذ جهودهم في العراء وان وقع في بعض حقب التاريخ([18]) وهو ما يردده بعض من لا يتصور لا حقيقة الاجتهاد ولا عطاء الكتب السابقة الفكري والعلمي ويكاد يتعذر عليه ادراك وجوه الاستنباط إلا بوجود نماذج يسير على منوالها ويترسم خطاها. ومع نقاء صورة الاجتهاد المنشود إلا أن اعداء الإسلام حاولوا أن يجعلوا منه سلماً لتحقيق غاياتهم، حتى تنبثق الأهواء وينقطع الرباط بين المسلم والنص؛ لأنه يؤدي إلى التلاعب به باسم الاجتهاد، وقد تم لهم بعض ما أرادوا، فتأثر بهم قوم من المسلمين فاتخذوه جنة يتقون بها عذل العاذلين، وحققوا به ما يصبون إليه فالله المستعان. وهؤلاء انقسموا طرائق قدداً أهمهم: 1ـ المصلحيون: وهم الذين جعلوا المصلحة مطية امتطوها لرد النصوص القطعية، وعلى رأس هؤلاء المشهور بنجم الدين الطوفي، وقد ناقشه بعض أهل العلم كالدكتور البوطي والأستاذ الريسوني. ([19]) ومن العجيب أن العلامة السيد رشيد رضا نقل بعض كلامه وأتبعه بالثناء وكأنه مؤيد له. ([20]) وهؤلاء تصوروا تعارضاً بين المصلحة والنص مع أن النص هو المصلحة الدينية والدنيوية، والمصلحة كامنة فيه، وما تصوره الناس من التنافي عائد إلى سوء الفهم، وان منع الشارع بعض المصالح في بعض الصور فلأجل التباسها بمفاسد تفوقها، مع أنه فتح لذات المنفعة رحاباً واسعة في غير تلك الصورة، ويتصور ان يكون اللفظ عاماً والمصلحة خاصة والعكس في الدليل الظني، وهنا قد تخصص عمومه وتقيد اطلاقه على الصحيح، وذلك كما مر آنفاً في حديث الدافة.