حقوق الإنسان ودور الدولة في إنفاذها المحامي الشيخ مصطفى ملص المسؤول الثقافي لتجمع العلماء المسلمين في لبنان بسم الله الر حمن الرحيم المقدمة تثار مسألة حقوق الإنسان منذ زمن بعيد، وإبان فترة الحرب الباردة لجأت دول المعسكر الغربي الرأسمالي إلى إثارة هذه المسألة لأهداف سياسية في وجه دول المعسكر الشيوعي، والدول الدائرة في فلكه. في ذلك الوقت حاولت دول المعسكر الرأسمالي أن تقدم نموذجاً لأنظمة الحكم التي توفر للمواطن أقصى ما يمكن من الحقوق والحريات. أو ماسمي بدولة الرفاه. وعندما انتهت الحرب الباردة بالهزيمة المنكرة للنظرية الشيوعية، وتفككت دول المعسكر الشيوعي، وكانت شعوب ذلك المعسكر كما بقية شعوب العالم تعيش تحت سيطرة الإعلام الغربي، الذي كان يصور الحياة في الغرب على أنها حياة الفردوس. فهي تطمح للوصول إلى تلك الحياة، الحلم. إذ أن الحياة في العالم الشرقي كانت أشبه بالسجن، أو هكذا صوّرت، وكان الناس يعتقدون أنهم بمجرد رفع الشعارات البرّاقة للديمقراطية والحرية سيصلون إلى ما يطمحون إليه. وكم كانت الكارثة كبيرة! حين تبين للجميع أن ما يطمحون إليه مستحيل وأنهم خدعوا، وأنه لا مجال حتى للعودة إلى ماكانوا عليه رغم بؤسه، لأن الحروب والانشقاقات عمّت، وبرزت في الأوساط المحلية مليشيات وضعت يدها على المقدرات، وبدأ الوجه البشع للرأسمالية المتوحشة. وبدا أن الليبرالية والحرية والديمقراطية كلها عملات مزيفة، لاقيمة لها إلا إذا كانت مدعومة بالثروة والقوة. وبدأت أمريكا تفرض على العالم مصالحها ورغباتها تحت طائلة تدمير كل من يتمرد على إرادتها، بأي نوع من أنواع الحرب; العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية أو الفكرية. وطرح شعار العولمة، وهو الشعار الذي فسّره الأوروبيون بأنه يعني «أمركة» العالم، حيث ستستطيع أمريكا بما تملك من إمكانيات على كل الصعد أن تفرض على العالم إرادتها، وان تحول العالم إلى تابع لها، بكل ما للكلمة من معنى، على الصعد الاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها. ومع تسليم معظم الدول بالدور الأمريكي الجديد، وبالنظر إلى الولايات المتحدة على أنها سيدة العالم، قامت أمريكا بأعمال انتهكت بها سيادة الدول، وحقوق الإنسان في العديد من بقاع الأرض، وشنّت حروباً تحت شتى الذرائع. وقدّمت الدعم لقوى دائرة في فلكها، فقامت هذه القوى بانتهاك حقوق الإنسان إلى أقصى الحدود. لقد شنت أمريكا حروباً ومولّت حروباً أخرى، في العراق وإيران وتركيا وأفغانستان وأرمينيا وآذربيجان والعديد من دول الاتحاد السوفياتي السابق. وكذلك فعلت في أفريقيا في السودان والجزائر وليبيا والحبشة وأرتيريا ومصر وروندا وبورندي وأوغندا وأنغولا وغيرها من الأقطار الإفريقية، وفي البوسنة والهرسك وكرواتيا وكوسوفا والجبل الأسود وفلسطين ولبنان... والحبل على الجرار. كل تلك العناوين، وقع فيها عدوان على حقوق الإنسان وحرياته من قبل أمريكا أو عملائها وأتباعها بدعم وتأييد منها. لقد صار السؤال على كل شفة ولسان، هل إنسان هذا العالم المسمى العالم الثالث هو إنسان؟ أم أن هناك اختلافاً في المراتب بين الإنسان الأمريكي واليهودي، وبين الإنسان العربي أو الإفريقي أو المسلم؟ فالإنسان الأمريكي واليهودي يفعل مايشاء، ولا يحق لأحد أن يعترض عليه، حتى حق الدفاع عن النفس في مواجهته يسقط. على كل حال، نحن عندما نطرح موضوع حقوق الإنسان، ودور الدولة في إنفاذ هذه الحقوق، إنّما نفعل ذلك من أجل مواجهة هذه الحرب الأمريكية على الإنسانية. ومن أجل أن نؤكد أن شعار العولمة، هذا الشعار الذي يحمل السم للإنسانية، وللعلاقات بين الإنسان والإنسان ويهدف أولا وأخيراً إلى تعبيد البشرية جمعاء لإله مزيف اسمه «الدولار». إنّما هو فخ كما وصفه كل من «هانس بيتر مارتين وهار الدشومان»([1]). إنه مما لاشك فيه أن أمريكا بواسطة أدواتها القوية، ومنها البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، تدفع الحكومات في مختلف دول العالم الثالث إلى التخلص من الأعباء المترتبة عليها بسبب تأمين بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للطبقات الشعبية الفقيرة، وتشيع أنه لا حل لمشاكل هذه الدول إلا بالإبتعاد عن تحمل تبعات المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للشعب. إن الهدف من وراء ذلك هو العمل على أن تصل الأمور بين الشعوب والحكومات في العالم الثالث إلى حالة الكفر المتبادل كلُّ بالآخر. إن العولمة هي الانقلاب الأمريكي على حقوق الإنسان وحرياته في العالم. وهذا الإنقلاب ينفذ لمصلحة الشركات العالمية الكبرى التي تتحكم باقتصاد العالم، وبالسياسات الاقتصادية للحكومات، عبر إرغامها على اتباع ارشادات ونصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، هذه الإرشادات والنصائح التي تتضمن غالباً، تخفيض قيمة العملة، تخفيض مريع في النفقات العامة وبصورة خاصة على المستوى الاجتماعي، وتقليص اعتمادات التعليم والصحة والسكن وإلغاء المعونات المتعلقة بالمواد الاستهلاكية بما فيها المواد الغذائية، خصخصة المؤسسات العامة، وزيادة تعريفات الكهرباء والمياه والنقل ووضع حد أعلى للأجور والرواتب وهذه السياسات تؤدي حتماً إلى فتن داخلية حيث يصطدم الجائعون بالسلطة كما حصل في مراكش عامي 1981 و1984 وفي كاركاس عامي 1985 و1989 وفي الجزائر عام 1988 وفي الأردن عام 1996([2]). وهذه السياسة هي سياسة ضرب حقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وقد أتينا بهذا البحث لنثبت أن الإنسان هو الهم الأول لكل حركة سياسية، وأن حقوق التي يتم الانقلاب عليها تحت عناوين براقة هي بالنسبة لنا نحن المسلمين ثابت ديني ملازم للعقيدة، ورديف للعبادة ولنبيين أن دور الدولة في الإسلام هو خدمة الإنسان وليس خدمة المال والشركات والثروة، من أجل أن يكون الإنسان لائقا بمنصبه وهو خليفة اللّه في أرضه. إن الإنسان في العالم الإسلامي قد عانى كثيراً خلال القرن الماضي جّراء التسلط والاستعمار الأجنبي، وأنه آن الأوان ليستعيد هذا الإنسان كرامته وحقوقه وحرياته ويستعيد عزّته التي جعلها اللّه له ليتبوأ على مشارف القرن الميلادي القادم، القرن الحادي والعشرين المكانة التي تليق بخير أمة أخرجت للناس. الفصل الأول المبحث الأول: التعريف اللغوي الحقوق، جمع حق. وهو في اللغة يأتي بمعاني متعددة، فهو أولاً اسم من أسماء الله تبارك وتعالى: قال عزّ وجلّ في القرآن الكريم: (فذلكم اللّه ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون)([3]). وقال أيضا: (هنالك الولاية للّه الحق هو خير ثواباً وخير عقبا)([4]) وقال أيضاً (فتعالى اللّه الملك الحق...)([5])وقوله أيضاً: (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن اللّه هو الحق المبين)([6]). ومن معاني الحق، الثبات والوجوب; يقال: حق اللّه الامر حقاً أي أثبته وأوجبه. ويقال: حقَّ الشيء، أي، ثبت ووجب. والحق ضد الباطل، والحق ما يقابل الواجب، يقال: الحقوق والواجبات بمعنى ما يترتب للمرء وما يترتب عليه. وتطلق أيضاً على النصيب فيقال: حقه أي نصيبه. وتستعمل مجازاً في معان كثيرة كالعدل. المبحث الثاني: التعريف الإصطلاحي للحق: رغم مالكلمة الحق من وضوح في أذهان عامة الناس، فإن علماء القانون قد اختلفوا في تعريف الحق اختلافاً واسعاً، ويقال بأن تعريف الحق من أكثر المسائل التي ثار الاختلاف بشأنه. ويمكن تحديد الاتجاهات العامة لتعريف الحق عند رجال القانون في الغرب بثلاثة مذاهب لكل منهم نظريته التي تستند إلى القيمة التي وجد أنها أجدر بالأخذ بعين الاعتبار. وهذه النظريات هي: 1- نظرية الإرادة، أو النظرية الشخصية. 2- نظرية المصلحة، أو النظرية الموضوعية. 3- النظرية المختلطة، وهي التي حاولت الجمع بين النظريتين السابقتين([7]). التعريف الأول: الحق قدرة إرادية يخولها القانون لشخص معين: وهذا التعريف هو المعتمد عند أصحاب نظرية الإرادة، أو النظرية الشخصية، وقد سمّيت بالنظرية الشخصية لأن أصحابها يعرّفون الحق بالنظر إلى صاحبه، لأن القدرة الإرادية صفة تلحق بالشخص صاحب الحق. التعريف الثاني: الحق مصلحة يحميها القانون: وهذا التعريف هو المعتمد عند أصحاب النظرية الموضوعية، أو نظرية المصلحة، وسمّيت بذلك الاسم لأن أصحابها يعرفون الحق بالنظر إلى موضوعه، وموضوع الحق هو المصلحة. التعريف الثالث: الحق مصلحة يحميها القانون، عن طريق قدرة ارادية لشخص: وهذا التعريف لأصحاب النظرية المختلطة الذين غلّبوا عنصر المصلحة على عنصر الإرادة. التعريف الرابع: الحق قدرة في خدمة مصلحة ذات صفة اجتماعية، وتباشر بواسطة ارادة مستقلة. وهذا التعريف لأصحاب النظرية المختلطة الذين غلّبوا عنصر الإرادة على عنصر المصلحة. وكل نظرية من هذه النظريات لا تخلو من النقد. التعريف الخامس: الحق ميزة يمنحها القانون لشخص ويضمنها بوسائله، وبمقتضاها يتصرف في قيمة منسوبة إليه باعتبارها له، أو مستحقة له: وهذا التعريف الأخير منسوب للفقيه القانوني البلجيكي «جان دابان». وهو تعريف جديد، حاول أن يتجنب فيه النظريات السابقة، وما وجه إليها من نقد، ونال هذا التعريف استحساناً من قبل الفقهاء لاسيما فقهاء القانون في مصر. المبحث الثالث: تعريف الحق لدى فقهاء الشريعة المسلمين: من الملاحظ بالرجوع إلى كتب الفقه والأصول أن العلماء المسلمين لم يعطوا تعريفاً كاملاً شاملاً للحق، وإذا وردت بعض التعاريف له، فإنما ترد قاصرة عن تحديده تحديداً كاملاً، شاملاً، ولعلهم رأوا أن فكرة الحق معروفة، فلا تحتاج إلى تعريف([8]). وقد حاول بعض الفقهاء والباحثين المسلمين المعاصرين إعطاء تعريف إسلامي للحق، يأخذ بعين الاعتبار المفاهيم الإسلامية، ذات العلاقة بمسألة الحق، وهي تختلف إلى حدّما عن المفاهيم الغربية، كمفهوم نشأة الحق مثلاً. ومن التعريفات التي وضعها هؤلاء نورد التعريفات التالية: التعريف الأول: الحق هو الحكم الثابت شرعاً: نقل هذا التعريف الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته. واعتبر انه تعريف غير جامع ولا شامل لكل ما يطلق عليه لفظ الحق عند الفقهاء. التعريف الثاني: الحق مصلحة مستحقة شرعاً: وهذا التعريف منسوب للأستاذ الشيخ علي الخفيف، ويقول عنه د. الزحيلي في كتابه المذكور آنفاً: أنه تعريف بالغاية المقصودة من الحق، لا بذاته وحقيقته، لأن الحق هو علاقة اختصاصية بين صاحب الحق والمصلحة التي يستفيد منها([9]). التعريف الثالث: الحق مصلحة ثابتة للفرد أو المجتمع أو لهما معا يقررها الشارع الحكيم: وهذا التعريف للدكتور محمد يوسف موسى ذكره في كتابه الفقه الإسلامي ص 211، وهو يشبه إلى حد بعيد التعريف السابق للشيخ علي الخفيف وقد رد عليه د. فتحي الدريني بأنه أيضا عرف الحق بغايته، لأن الحق ليس مصلحة، بل وسيلة إلى مصلحة([10]). التعريف الرابع: الحق هو اختصاص يقر به الشرع سلطة شيء، أو اقتضاء أداء من آخر، تحقيقا لمصلحة معيّنة([11]). التعريف الخامس: الحق هو اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفا: وهذا التعريف قريب من التعريف السابق. وقد اعتبر الدكتور وهبه الزحيلي ان هذا التعريف الذي جاء به د. مصطفى الزرقا جيّد، لأنه يشتمل أنواع الحقوق الدينية، كحق اللّه على عباده، والحقوق المدنية كحق التملك، والحقوق الأدبية، والحقوق العامة([12]). ملاحظة حول هذه التعريفات: الملاحظ من قراءة هذه التعريفات آنها دارت على اعتبار أن الحق أما حكم أو مصلحة أو اختصاص ولكنها أجمعت على أمر واحد، وهو علاقة كل ذلك بالشرع. وهو أمر يراد به الاشارة إلى منشأ الحق، لأن الفقهاء المسلمين يعتبرون وكما سيرد معنا أن الحق هو أمر مقرر من قبل اللّه تعالى. ونحن نرى أن التعريف الخامس الذي ذكرناه، وهو للدكتور مصطفى الزرقا، هو التعريف الذي يمكن أن ينضوي تحت مفهوم الحق، حينما يتعلق بالحريات العامة، وحقوق الإنسان. المبحث الرابع - مقارنة بين تعريف فقهاء القانون الغربيين وتعريف فقهاء الشريعة الإسلامية: من خلال التعريفات التي أوردنا لفقهاء القانون الغربيين، نجد أنها جميعا تعتبر أن الحق سواء من اعتبره مصلحة، أو ميزة، أو قدرة إرادية، إنّما هو أمر يمنحه القانون، أو يحميه، وهذا يعني أن مرجع الحق هو القانون، فالذي قال أن القانون يمنحه رمى إلى بيان أن الجماعة البشرية هي التي تنشئه وتقره، والذي قال إن القانون يحميه، رمى إلى بيان أن الطبيعة هي مصدر الحق وان على الجماعة البشرية أن تسن القانون لتحمي هذا الحق فقط، لأنه موجود أصلا قبل وجود الجماعة. ومن خلال مقارنة التعريفات التي أعطاها الفقهاء المسلمون للحق، بالتعريفات التي أعطاها فقهاء القانون الغربيون، ندرك تأثر الفقهاء الاسلاميين الحديثين إلى حد كبير بالفهم الغربي للحق باعتباره مصلحة، أو وسيلة لحماية مصلحة، غير أنه اختلفوا معهم في إيراد الإشارة إلى مصدر الحق، حيث يرى علماء الشريعة الإسلامية أن مصدر الحق هو اللّه عزوجل، فيما ركز الطرف الآخر على اعتبار أن القانون، هو، إما مصدر الحق، أو أنه حامي الحق، مع بيان أن الذين اعتبروا أن القانون هو حامي الحق، إنّما أرادوا الإشارة إلى أن مصدر الحق هو الطبيعة، وهذا يعني أنهم يرون مصدر الحق خارج دائرة الإنسان، وعقله البشري، وسلطته على هذا الكون. والمسلمون الذين يعتبرون أن اللّه هو مصدر الحق قد جعلوا ايضاً هذا المصدر خارج نطاق الإنسان وعقله البشري وسلطته على هذا الكون. والأثر المترتب على ذلك عند هذين الفريقين هو كف يد الإنسان عن التعرض لهذا الحق أو الانتقاص منه. ولهذا أعظم الأثر على حقوق الإنسان، هذه الحقوق التي تكون عرضة للتدخل والانتهاك من قبل الحاكم أو من قبل الجماعة أو باسم الجماعة ممن يمسكون بالقرار فيها. وإذا كنا نميل كثيراً إلى إخراج الحقوق، وخاصة حقوق الإنسان من نطاق السيطرة البشرية، من أجل الحفاظ على قدسيتها وعدم الانتقاص منها، أو الإخلال بها، إلا اننا نرى أن تطور الزمن بعد عهد الرسالة قد ينشئ حقوقاً لم تكن معروفة فيما مضى، ولم يُتطرق إليها، وأن الواجب يقتضي أن تعطي هذه الحقوق الحماية للحاجة إليها. وللخروج من الخلاف نستطيع استبدال كلمة ينشئ حقوقاً، بعبارة نكتشف حقوقاً، لأن المهم هو استعمال الإنسان لهذا الحق من أجل إنجاز المهمة، والوظيفة المكلف بها على هذه الأرض كما سيأتي بيانه. المبحث الخامس - منشأ الحق: أ - الرأي الغربي: لا يحتاج المرء للحديث عن الحق إلا إذا كان يعيش في جماعة، لأن الحق من مقتضيات الاختلاف عند البشر، فإذا تضاربت المصالح، وتشابكت الأهواء، وبرزت الحاجات صار التطلع إلى بيان الحق ضرورة، من أجل الحفاظ على أمن الجماعة، وديمومتها، واستقرار أوضاعها. وقد ثار الخلاف حول فكرة الحق بين فقهاء القانون، فانقسموا إلى مذهبين، عرف أحدهما بالمذهب الفردي، وعرف الآخر بالمذهب الجماعي. أما أصحاب المذهب الفردي فيرون أن الفرد هو الغاية والهدف من وراء كل تنظيم قانوني، وان الفرد يولد متمتعاً بحقوق طبيعية بصفته إنساناً، وأن تمتعه بهذه الحقوق يعود إلى ما قبل وجود القانون، وتقتصر وظيفة القانون على حماية هذه الحقوق والمحافظة عليها وتمكين الأفراد من التمتع بها. أما أصحاب المذهب الجماعي فيرون أن الجماعة هي الهدف من كل تنظيم قانوني، ولا يجوز للفرد أن يتمسك بحقوق طبيعية مزعومة في مواجهة الجماعة، ولا يملك الفرد من الحقوق إلاّ ما تمنحه إيّاه الجماعة باسم القانون، وهكذا يعتبرون أن القانون هو أساس الحق، أي أن الحق هو ما تمنحه الجماعة، بما تضعه من تنظيم([13]) . ونحن نرى أن ماذهب إليه الطرفان قد يجاري الحقيقة في جانب، ويجافيها في جانب آخر، فكل فريق يضع فرضية، يهدف من خلالها الوصول إلى مايريد اثباته في الواقع الحاضر، ويقيم حواراً من جانب واحد، يخرج بنتيجته بالجواب الذي ما وضعت عبارات الحوار إلا لتأتي به. وخلاصة الخلاف بين الفريقين تتلخص في السؤال التالي: أيهما مقدم على الآخر في المصلحة؟ مصلحة الفرد، أم مصلحة الجماعة؟ ب - الرأي الإسلامي: يرى فقهاء الإسلام أن اللّه تبارك وتعالى هو المتصرف بما في هذا الكون بإرادته، وأنه إذا قضى أمراً فلا مرد لقضائه، وأن الحكم هو للّه، إنطلاقاً من قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)([14]) ومن قوله تعالى: (... إن الحكم إلا للّه أمر ألا تعبدوا إلا إياه)([15]). ولأن اللّه هو الخالق، وهو المالك لهذا الكون ومافيه، وهو الذي جعل الإنسان خليفة على هذه الأرض، (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)([16]). فقد حبا هذا الإنسان بالنعم الكثيرة، وجعله محور الحياة، وسخّر له كل شيء ليعيش، وليقوم بالمهمة الموكلة إليه وهي عمارة الأرض. قال تعالى: (ألم تروا أن اللّه سخّر لكم مافي السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة)([17]). وقال تعالى: (والى ثمود أخاهم صالحاً، قال يا قوم اعبدوا اللّه مالكم من إله غيره، هو الذي انشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إن ربي قريب مجيب)([18]). فكل ما يتمتع به الإنسان من حقوق، وما اسبغ عليه من نعم، إنّما كانت لتمكينه مكرماً من عمارة الأرض، بالمعنى الواسع للعمارة، ولعبادة اللّه، بالمعنى الواسع للعبادة ايضاً. من هنا يرى الفقهاء المسلمون أن مصدر الحق هو اللّه تبارك وتعالى، وأنه ليس لأحد أن يقر حقاً لم تقره الشريعة، لهذا نجدهم يعتبرون المحرم من الأموال غير متقوم بحق المسلم، فالخمر أو الخنزير غير متقومان بحق المسلم، فإن المسلم لا يستطيع أن يطالب بالتعويض عنهما. بخلاف ما إذا كان المالك للمال المحرم غير مسلم، فإنه يستطيع أن يطالب بالتعويض عن ماله إذا أتلفه له شخص آخر، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم([19]). وقد تكّلم كثير من الفقهاء عن الحق باعتباره مصلحة ثابتة مادية أو معنوية، فقسموا الحقوق إلى ثلاثة اقسام هي حقوق عامة، وحقوق خاصة، وحقوق مشتركة: 1- الحقوق العامة: أو حق اللّه وهي كل حق تعلق به النفع العام، وسمي بحق اللّه لا لأن نفعه يعود على اللّه، تعالى اللّه عن ذلك ولكن لأن ماكان نفعه راجعاً إلى جميع الخلق فلا ينسب إلاّ إلى الخالق لإخراج التحكم به من يد المخلوق، ولو كان حاكماً فرداً أو حكومة، وهذا الحق العام لا يملك أحد أن يتنازل عنه. 2- الحقوق الخاصة: أو حق العبد: وهو ما تعلقت به مصلحة الفرد الخاصة، كحق الدية، وحق الضمان. وتقسم الحقوق الخاصة إلى قسمين: حقوق تقبل الإسقاط، كحق الشفعة وحق القصاص وحق التعويض. وحقوق لا تقبل الإسقاط، أما لتعلق حق الغير بها، كحق الحضانة للأم، وحق المطلِّق في عدة مطلقته. وإما لأنها لم تثبت بعد، كإسقاط الزوجة حقها في النفقة المستقبلية، وإما لأنها تعتبر شرعاً من الأوصاف الذاتية الملازمة للشخص، كحق الولاية على الصغير، واما لكونها من الحقوق التي يترتب على اسقاطها تغيير للأحكام الشرعية، كإسقاط المطلِّق حقه في إرجاع زوجته. الحقوق المشتركة: وهي التي يجتمع فيها حق العبد وحق اللّه، فإذا كان حق اللّه هو الغالب لايجوز التنازل عنها، كحد القذف، لاعتبار أن حماية الأعراض مصلحة عامة. أما إذا كان حق العبد هو الغالب، كحق القصاص، فإن بـإمكان ولي الدم أن يتنازل عن حقه ويعفو عن القاتل. وإذا كان الحق منحة إلهية تستند إلى المصادر التي تستنبط منها الأحكام الشرعية، وهو بالتالي ليس طبيعياً، مصدره الطبيعة، وليس بشرياً، بمعنى أن الجماعة هي التي تقدر حقوق الأفراد بما تضعه من قوانين. فإن الحق ليس مطلقاً، لأن الفرد مقيد عند استعمال حقه بمراعاة حقوق الآخرين، وعدم الإضرار بمصلحة الجماعة أو الأفراد. والحق في الشريعة يستلزم واجبين: 1- واجب عام على الناس باحترام حق الشخص وعدم التعرض له. 2- واجب خاص على صاحب الحق بأن يستعمل حقه بحيث لا يضر بالآخرين([20]). موقع حقوق الإنسان: كما لاحظنا من خلال كتابات المسلمين من سلفنا الصالح نجد انهم لم يتطرقوا لحقوق الإنسان بالمعنى الاصطلاحي الحديث، ولكن بالرجوع إلى مصادرهم الفقهية نجد أن الفقه الإسلامي عُني جداً بالأحكام التي تطال حقوق الإنسان، وكذلك نجد غنى لا حد له في النصوص الإسلامية، من كتاب اللّه وسنّة نبيه محمد(صلى الله عليه وآله)، وآثار الخلفاء لاسيما أبي بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم. وهذا ما سنتطّرق لبيانه أو الإشارة إليه في مواضعه المناسبة. الفصل الثاني: حقوق الإنسان تمهيد وجد الإنسان، ووجد الظلم، والإنسان لايكون في هذا الكون وحيداً، فالخالق عزّ وجل خلق آدم وخلق له زوجه، وظلم آدم وزوجه نفسيهما عندما عصيا خالقهما. ثم كان الهبوط إلى هذه الأرض وكان التكليف وكان البيان، هذا حلال وهذا حرام، ومع ذلك طوعت نفس ابن آدم لصاحبها قتل أخيه ظلماً فقتله ثم ندم على قتله، وسبب الجريمة الأولى كما يقال أن أحد ابني آدم لم يرض بنصيبه وأراد أن يسلب أخاه حقه، فقتله، ويروى أن النبي محمداً (صلى الله عليه وآله) قد قال إن على ابن آدم الأول كفل من كل جريمة قتل تحصل إلى يوم الدين. اللّه سبحانه وتعالى أعطى الحق، وقسّم الأنصبة، وأمر بالرضى بها، وحذر من المخالفة والمعصية، ولكن الإنسان تمرد على الشريعة، وأحب الاستئثار والتسلط والطغيان، فاعتدى على حقوق أخيه الإنسان، تلك هي الحقيقة. ذلك هو الواقع، ومن أجل رفع الظلم أيضاً تمرّد الإنسان على الطغيان، فثار الصراع، وكثيراً ما جرى تبادل الأدوار. وحدهم الرسل، رسل اللّه، حملوا الشرائع، وطلبوا العدل، وإقامة الحق، فمنهم من استطاع، ومنهم من لم يستطع، ومنهم من أطاح الظلم به، ولكن الدعوى لرفع الظلم وللإصلاح استمرت، وما ينبغي لها أن تقف، وبالمقابل استمر الظلم، فالصراع إذن دائم ومستمر، في كل زمان يأخذ إطاراً مختلفاً، ويخاض بسلاح مختلف، فالتجدد صفته الدائمة. حقوق الإنسان، وحرياته، معركة في مواجهة الطغيان، وربما تراد أحياناً معركة من أجل الطغيان، لاتهم العناوين، فالعنوان سيف ذو حدين، وقديماً قالت العرب: كلمة حق أريد بها باطل. المبحث الأول - لمحة تاريخية عن حقوق الإنسان: خاضت الشعوب على مرّ العصور الصراع ضد جلاديها، ووقعت الثورات والقلاقل وأريقت الدماء، ولم تتوقف محاولات الشعوب من أجل الفوز بحقوقها وحرياتها، ومن أجل العيش بكرامة. ويذكر التاريخ أن الشعوب الأوروبية قد خاضت صراعاً مريراً، استمر زمناً طويلاً في مواجهة ملوك ادّعوا لأنفسهم سلطاناً الهياً، وحقاً مقدّساً، فرضوا بموجبه على الناس قهراً وإذلالاً، وحمّلوهم ما لا يطاق. ومامن وثيقة جاءت تحمل إقرارا بحق من حقوق الإنسان، إلا وجاءت عقب ثورة أو تمرّد، بدأ من الوثيقة الكبرى (Mana carta) الصادرة في العام 1215 عقب ثورة للشعب والإكليروس في انجلترا ضد استبداد الملك جان بلا أرض (jean sans terre) بل وقبلها شرّعة الحريات (charter ofliberties) التي أعلنها الملك هنري الأول في العام 1101 نزولاً عند إلحاح النبلاء والبورجوازيين. ثم عريضة الحقوق (petition of rihts) التي صدرت في العام 1628 بعد صراع مباشر بين الملك شارل الأول والبرلمان اثر محاولة الملك فرض ضرائب جديدة على الشعب دون الحصول على موافقة البرلمان([21]). أما الإعلان الفرنسي المسمى إعلان حقوق الإنسان والمواطن. (Declaration des droits de l'homme et du citoyen)فقد صدر عقب انتصار الثورة الفرنسية ضد الملك في 26 آب 1789، هذه الثورة التي استمدت أفكارها من المفاهيم المتجددة التي كان فلاسفة عصر الأنوار وعلى رأسهم «روسو» و«فولتير» و«مونتسكيو» قد طروحوها، والتي ركزت على السلطة وطريقة ممارستها، والحريات العامة والفردية التي تساهم بتطور المجتمع([22]). أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد جاء بيان إعلان الاستقلال الصادر سنة 1776 متضمناً مبادئ مثل المساواة بين الناس، وتمتعهم بحق الحياة، والحرية، وطلب السعادة، فكان من أهم الإعلانات لحقوق الإنسان في الغرب، وقد صاغها الرئيس «جيفرسون» متأثراً بآراء الفلاسفة الأوروبيين أمثال جون لوك وروسو وفولتير. وعلاوة على هذه الإعلانات الغربية، فقد نصت معظم الدساتير الغربية الحديثة على تثبيت حقوق الإنسان بعبارات وصيغ متشابهة، فأقرت المساواة، وحق التعليم المجاني، وحريات الفكر والتعبير والاجتماع والتظاهر والنقابات، والحرية الشخصية وحرية المنزل، والمراسلات، وحق اللجوء السياسي للأجانب المضطهدين([23]). ثم كان التطور الكبير، وكانت الخطوة الكبرى على طريق تقنين وتدوين حقوق الإنسان، وهي إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أقرّته الأمم المتحدة في جمعيتها العامة، في العاشر من شهر كانون الأول سنة 1948. وقد كانت هذه الخطوة تعبيراً عن عصر التنظيم الدولي الذي وإن كان قد ظهر عام 1919 بقيادة عصبة الأمم. إلا أنه لم يتبلور كفكرة ويتجسد كنشاط الا بعد نشأة الامم المتحدة، ووكالاتها المتخصصة، والمنظمات الدولية والاقليمية في الحياة الدولية([24]). ثم جاء العهدان الدوليان المتضمنان للحقوق المدنية والسياسية، وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذين صدرا في العام 1976، أي بعد ثلاثين سنة على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبذلك أصبح القانون الدولي لحقوق الإنسان حقيقة واقعة، بعد أن كان العهدان قد وضعا في 16 كانون الأول 1966، ولكنهما لم يدخلا حيز التنفيذ إلا في العام 1976، عندما بلغ عدد الدول المصدقة عليهما النصاب المطلوب([25]). ثم صدرت الاعلانات الإقليمية المتعلقة بحقوق الإنسان، ومنها الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 19 أيلول 1981، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، الذي صادق عليه مؤتمر الرؤساء بمنظمة الوحدة الإفريقية في العام 1981 ودخل حيز التنفيذ في العام 1991([26])، وكذلك إعلان طهران. المبحث الثاني - مضمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: يعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أهم إعلان دولي لحقوق الإنسان في العصر الحديث، فقد جاء هذا الإعلان منسجماً مع ماورد في ميثاق الأمم المتحدة لاسيما المادة 55 الفقرة ج والتي تنص على: «أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء، ومراعاة تلك الحقوق فعلا، فتم التصديق على هذا الإعلان بأكثرية ثمانية وأربعين صوتاً مقابل ستة، امتنع أصحابها عن التصويت، وهي الاتحاد السوفياتي، وأوكرانيا، وروسيا البيضاء، وبولونيا، وأفريقيا الجنوبية، والمملكة العربية السعودية. ودلّ عدم الإجماع هذا، على عمق التباينات الإيديولوجية التي كانت قائمة في حينه بين الأنظمة السياسية المختلفة([27]). وقد جاءت الحقوق التي تضمنها الإعلان مندرجة في إطار أربعة عناوين كبرى هي: أ - الحقوق المرتبطة بشخصية الإنسان (المواد 3 - 14) وهي تتضمن: الحق في الحياة، وفي الحرية، وفي السلامة، وفي الكيان القانوني الذاتي، وفي تحريم العبودية (l'esclavae)، والرق (la servitude)، والتعذيب (la torture)، وفي المساواة أمام القانون، وفي الحصول على الحماية والضمانات القانونية من خلال احترام المبادئ الأساسية للقانون الجزائي، وعدم رجعية العقوبات، واعتبار المتهم بريئاً حتى تثبت إدانته، وفي عدم انتهاك حرمة المنزل، والمراسلات الشخصية، وفي حرية التنقل ذهاباً وإياباً، وفي تأمين المسكن. ب - الحقوق المرتبطة بالأحوال الشخصية (المواد 15 - 17) وهي تتضمن: الحق في الجنسية، وفي حرية الزواج، وفي احترام حقوق العائلة، وفي احترام وصيانة حق الملكية الفردية، والجماعية. ج - الحقوق العامة والسياسية (المواد 18 - 27) وهي تتضمن: الحق في العمل لقاء أجر عادل، وفي العيش بكرامة، وفي مستوى حياتي لائق وكاف، وفي النشاط النقابي، وفي الراحة وممارسة الهوايات، والصحة، وفي التربية، وفي التعليم والثقافة([28]). ومع التسليم بالأولوية في الأهمية المعنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولما تركته من آثار في دساتير الدول المعاصرة، فإن هذا الإعلان ليس الشرعية الوحيدة في القانون الدولي، فهناك الهيئة الأمريكية لحقوق الإنسان ( lacommission interamericaine de drotis de l'homme) المنبثة عن منظمة الدول الأمريكية. وهناك الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان (laconvention europeenne de drotis de l'homme). التي انبثقت عن اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان. وهناك المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ( (le cour europeenne dedroite de l'homme) وهناك الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان الصادر عن الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي.. الخ، والجدير بالذكر أن كل هذه الإعلانات والهيئات الإقليمية إنّما كانت بوحي من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتقوية له على الصعد الإقليمية. المبحث الثالث - القيمة القانونية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان: يعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واحداً من أبرز القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، فهو من الناحية الشكلية ليس معاهدة دولية، وإذا كانت الموافقة على الإعلان قد تمت بالإجماع بحيث لم تصوت ضده أية دولة، فإن ذلك لا يعني تمتع الإعلان بأية صفة إلزامية، لذا لا يمكن اعتباره جزءاً من قواعد القانون الدولي الوضعي، والقيمة القانونية لهذا الإعلان لا تعدو كونه تصريحاً عاماً جاء بحكم المبادئ العامة التي تهتدي بها الدول في أنظمتها الدستورية والتشريعية، وقد اعتبر مجلس شورى الدولة الفرنسي، انه ليس لهذا الإعلان أي طابع إلزامي في المجال القانوني الداخلي الفرنسي، كما رفضت الحكومة الفرنسية في حينه إخضاعه لموجب التصديق عليه من قبل الجمعية الوطنية، أو مجلس النواب، لكونه ليس معاهدة أو اتفاقاً بين الدول([29]). كما برزت مثل هذه التحفظات من قبل دول أوروبية وأمريكية أخرى، فقد قرر المجلس الدستوري النمساوي بتاريخ 5 تشرين الأول سنة 1950 أن تطبيق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على الأراضي النمساوية ليس واجباً، ولا يرتدي طابع الإلزام بالمطلق. وأيضاً، إعتبر اجتهاد المحاكم العليا في بعض ولايات المتحدة الأمريكية، إن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان لا تشكل معاهدة دولية نافذة بحد ذاتها (selfexecutin)، وبالتالي فإنه لايجوز للأفراد أن يدلوا بأحكامها في وجه الدولة، أو الولاية التي ينتمون إليها([30]) . ولا يختلف الفقه عن الاجتهاد في نظرته إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فهناك شبه إجماع على أن أهمية هذا الإعلان تكمن في كونه يعلن مبادئ عامة أساسية، ذات طابع شمولي عام، قد تكون صالحة لإرشاد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة نحو آفاق جديدة من العدالة والإنصاف، ولكنها لا يمكن لها إطلاقاً أن تشكل أساساً لأي رقابة قضائية، وذلك لأنها مجردة من أي قيمة قانونية وضعية إلزامية. وهناك قلة من الفقهاء يرون رأياً معاكساً للرأي الأول، إلا أن هذا الرأي لا يستند إلى منطق سليم، فهم يعتبرون أن الاعلان قد جاء تطبيقاً للمادتين 55 و56 من ميثاق الأمم المتحدة، مما يمكن معه أن نعترف للإعلان بنفس القيمة القانونية الملزمة لهاتين المادتين. ولكن ليس من المسلم به أن لميثاق الأمم المتحدة، ولهاتين المادتين 55 و 56 منه هذه القيمة الملزمة، فقد اختلف الفقه حول القيمة القانونية لهذه النصوص، وحول مدى الإلتزام الذي تفرضه على الدول، وعلى المنظمات الدولية، بصدد حقوق الإنسان. فهناك اتجاه يرى أن هذه النصوص ليست لها قيمة قانونية، فالميثاق لم يفرض على الأعضاء التزاماً محدداً بأن يمنحوا لرعاياهم الحقوق والحريات المذكورة فيه. كما أن اللغة التي استخدمها الميثاق بهذا الصدد، لا تسمح بالقول بأن الأعضاء واقعون تحت التزام قانوني بشأن حقوق وحريات رعاياهم. كما أن المنظمة ليس لها السلطة - بمقتضى الميثاق - لكي تفرض على حكومات الدول الأعضاء التزامات بأن تضمن لرعاياها الحقوق المشار إليها. ويتجه رأي آخر إلى القول بأن احترام حقوق الإنسان يأخذ قوته الملزمة باعتباره أحد المبادئ العامة التي تشكل سياسة المنظمة الدولية، فرغم آنهاغير ملزمة قانوناً، إلا أنه لا يمكن تجريدها من كل فائدة([31]). ويدل واقع الالتزام بحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم على أن القيمة القانونية الإلزامية سواء للميثاق، أو للإعلان شبه معدومة، على أن إنكار الصفة القانونية على الإعلان، لا يقلل من قيمته الفعلية، ومن الصفة الأدبية الكبيرة التي يتمتع بها، باعتباره صادراً عن أكبر السلطات الدولية، وأكثرها تعبيراً عن المجتمع الدولي كما أنه لا يمكن تجاهل ما أحدثه صدور هذا الإعلان من تأثيرات ضخمة في التشريعات، والقرارات الدولية، التي صدرت تطبيقاً له، أو الدساتير والأنظمة المحلية التي أكدت مبادئه([32]). نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10/12/1948 الديباجة: لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم. ولما كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية أذت الضمير الإنساني، وكان غاية ما يصبو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة. ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان، لكيلا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم. ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أكدت في الميثاق من جديد إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية، وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن ترفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح. ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها. ولما كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى للوفاء التام بهذا التعهد. فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه المستوى الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع، واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم، إلى توظيف احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ اجراءات مطردة، قومية وعالمية، لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها. المادة الأولى: يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء. المادة الثانية: لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أي تفريق بين الرجال والنساء. وفضلاً عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي لبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلاً أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود. المادة الثالثة: لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه. المادة الرابعة: لايجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعها. المادة الخامسة: لا يُعرّض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة للكرامة. المادة السادسة: لكل إنسان أينما وجد الحق بأن يُعترف بشخصيته القانونية. المادة السابعة: كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة منه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعاً الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا. المادة الثامنة: لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه من أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها له القانون. المادة التاسعة: لايجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً. المادة العاشرة: لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه. المادة الحادية عشرة: 1- كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانونياً بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه. 2- لا يُدان أي شخص من جراء أداء عمل أو الامتناع عن أداء عمل إلا إذا كان ذلك يعتبر جرماً وفقاً للقانون الوطني أو الدولي وقت الارتكاب. كذلك لا توقع عليه عقوبة أشد من تلك التي كان يجوز توقيعها وقت ارتكاب الجريمة. المادة الثانية عشرة: لا يُعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، أو لحملات على شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات. المادة الثالثة عشرة: 1- لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة. 2- يحق لكل فرد أن يغادر أي بلد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة. المادة الرابعة عشرة: 1- لكل فرد الحق في أن يلجأ إلى بلاد أخرى أو يحاول الإلتجاء اليها هرباً من الإضطهاد. 2- لا ينتفع بهذا الحق من قدّم للمحاكمة في جرائم غير سياسية أو لأعمال تناقض أغراض الأمم المتحدة ومبادئها. المادة الخامسة عشرة: 1- لكل فرد حق التمتع بجنسية ما. 2- لا يجوز حرمان شخص من جنسيته تعسفاً أو إنكار حقه في تغييرها. المادة السادسة عشرة: 1- للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج، حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله. 2- لايبرم عقد الزواج إلا برضى الطرفين الراغبين في الزواج رضى كاملاً لا إكراه فيه. 3- الأسرة هي الوحدة الطبيعية الأساسية للمجتمع ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة. المادة السابعة عشرة: 1- لكل شخص حق التملك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره. 2- لايجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً. المادة الثامنة عشرة: لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة، وإقامة الشعائر، ومراعاتها، سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة. المادة التاسعة عشرة: لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية. المادة العشرون: 1- لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية. 2- لا يجوز إرغام أحد على الإنضمام إلى جمعية ما. المادة الحادية والعشرون: 1- لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون اختياراً حراً. 2- لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد. 3- إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب إجراء مماثل يضمن حرية التصويت. المادة الثانية والعشرون: لكل شخص بصفته عضواً في المجتمع الحق في الضمانة الاجتماعية، وفي أن تحقق بواسطة المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتفق ونظم كل دولة ومواردها، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي لا غنى عنها لكرامته وللنمو الحر لشخصيته. المادة الثالثة والعشرون: 1- لكل شخص الحق في العمل، وله حرية اختياره بشروط عادلة مرضية كما أن له الحق في الحماية من البطالة. 2- لكل فرد دون أي تمييز الحق في أجر متساو للعمل. 3- لكل فرد، يقوم بعمل، الحق في أجر عادل مرض يكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامة الإنسان، تضاف إليه، عند اللزوم، وسائل أخرى للحماية الاجتماعية. 4- لكل شخص الحق في أن ينشئ وأن ينضم إلى نقابات حماية لمصلحته. المادة الرابعة والعشرون: لكل شخص الحق في الراحة، وفي أوقات الفراغ، ولا سيما في تحديد معقول لساعات العمل وفي عطلات دورية بأجر. المادة الخامسة والعشرون: 1- لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته. 2- للأمومة والطفولة الحق في مساعدة ورعاية خاصتين، وينعم كل الأطفال بنفس الحماية الاجتماعية سواء أكانت ولادتهم عن رباط شرعي أم بطريقة غير شرعية. المادة السادسة والعشرون: 1- لكل شخص الحق في التعليم، ويجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان، وأن يكون التعليم الأولي إلزاميا، وينبغي أن يعمم التعليم الفني والمهني، وأن يسير القبول للتعليم العالي على قدم المساواة التامة للجميع وعلى أساس الكفاءة. 2- يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماءً كاملاً، والى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية، والى زيادة مجهود الأمم المتحدة لحفظ السلام. 3- للآباء الحق الأول في اختيار نوع تربية أولادهم. المادة السابعة والعشرون: 1- لكل فرد الحق في أن يشترك اشتراكاً حراً في حياة المجتمع الثقافي وفي الاستمتاع بالفنون، والمساهمة في التقدم العلمي والاستفادة من نتائجه. 2- لكل فرد الحق في حماية المصالح الأدبية والمادية المترتبة على انتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني. المادة الثامنة والعشرون: لكل فرد الحق في التمتع بنظام اجتماعي دولي تتحقق بمقتضاه الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققا تاماً. المادة التاسعة والعشرون: 1- على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نمواً حراً كاملاً. 2- يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي. 3- لا يصح بحال من الأحوال أن تمارس هذه الحقوق ممارسة تتناقض مع أغراض الأمم المتحدة ومبادئها. المادة الثلاثون: ليس في هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة أو جماعة أو فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه. الفصل الثالث: حقوق الإنسان في الإسلام تمهيد: يعتبر الإنسان في الإسلام محور هذا الكون، فكل شيء مخلوق ليكون مسخراً لهذا الإنسان، يستعين به لإنفاذ تكليفه الذي كلفه اللّه تبارك وتعالى به، وهو عبادة اللّه، والعبادة في الإسلام لا تعني فقط الطقوس والشعائر، وإنّما تشمل كل نواحي حياة الإنسان، الفردية، والجماعية، فالإنسان في كل تصرف يتصرفه في واحد من حالين، أما هو في حال طاعة للّه، واما هو في حال معصية، فإن كان ينطلق في تصرفه من منطلق مراعاة أحكام الشرع، وعدم الرغبة في مخالفته، فهو في طاعة، سواء أصاب في تصرفه، أم أخطأ. وأن كان ينطلق في تصرفه من منطلق عدم مراعاة الشرع، وعدم إقامة الاعتبار لرأيه، فهو في معصية سواء أصاب أم أخطأ. ولعل التكليف الشرعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يختصر مهمة الإنسان ودوره في هذه الحياة، لأن هذا العنوان تنضوي تحته كل عناوين الخير والصلاح والإصلاح. فإذا كان هذا هو الدور، وهذه هي المهمة، فهل يستطيع الإنسان أن يؤدي دوره، ومهمته، إذا كان لا يتمتع بأكبر قدر مستطاع من الإمكانية والحرية. إن اللّه تبارك وتعالى يبين لنا من خلال آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن تسخير مافي السماوات والأرض للجماعة الإنسانية، ليكون لها عوناً على العبادة، بالمفهوم الشامل، وبالأخص منه مفهوم العمارة، التي لا يمكن أن تقوم إلا على مفاهيم العدالة والحرية; يبين لنا، أنه كما أعطى الجماعة الإنسانية الحد الأقصى من الإمكانيات، فإن هذا الحد الأقصى يجب أن يراعى في حق الفرد، فيكون له نصيبه الكامل، وبحده الأقصى أيضاً. ولعل سورة من أقصر السور في القرآن الكريم، تضعنا في الأجواء الرحبة التي تحيط بتكليف الإنسان، والتي تشير إلى أن تمتع الإنسان بالكفاية والأمن، يجب أن يحفز على العبادة: (لإيــلاف قــريش. إيــلافهم رحلــة الشتاء والصيــف. فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) صدق اللّه العظيم. ولقد فهم فقهاء الإسلام حق الإنسان في التمتع بالأمن والكفاية من أجل قيامه بما هو مكلف به، فهذا الإمام الغزالي يقول في أحد كتبه([33]): «إن نظام الدين لا يحصل الا بنظام الدنيا، فالمعرفة والعبادة لا يتوصل إليهما إلا بصحة الأبدان، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات، من الكسوة والمسكن، والأوقات والأمن،.. فلا ينتظم الدين الا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية، وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف الظلمة، وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرغ للعلم والعمل؟ وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة؟ فإذن: إن نظام الدنيا، أعنى، مقادير الحاجة شرط لنظام الدين»([34]). وفي حديث عن الإمام جعفر بن محمد (رضي الله عنه) قال: «أيّما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه، وهو يقدر عليه من عنده، أو من عند غيره، أقامه اللّه يوم القيامة، مسوداً وجهه، مزرقة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال: هذا الخائن، الذي خان اللّه ورسوله، ثم يؤمر به إلى النار»([35]). المبحث الأول - أصل حقوق الإنسان في الإسلام جاء الحديث عن حقوق الإنسان في الإسلام في أصل التشريع، حيث ثبّت هذه الحقوق في القرآن الكريم، والحديث النبوي، فكان الكتاب والسنّة هما أصل هذا الحقوق وأصل إثباتها، وإذا ما رجعنا إلى القرآن الكريم نراه يؤصل لهذه الحقوق عبر تثبيت مبدئين عظيمين أساسيين هما مبدأ الكرامة ومبدأ العزّة. أما مبدأ الكرامة فمن قوله تعالى: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً)([36]). وهذا التكريم ليس خاصاً بالمسلمين وإنّما هو شامل لكل من تناسل من ذرية آدم(عليه السلام) وهو أول البشر وأبوهم، فالمسلم وغير المسلم في التكريم الإلهي سواء. وينقل الدكتور صبحي الصالح عن تفسير الآلوسي لقوله تعالى: (ولقد كرّمنا بني آدم...) الآية «أي جعلناهم قاطبة، بارّهم وفاجرهم، ذوي كرم أي شرف ومحاسن»([37]). وأما مبدأ العزة فمن قوله تعالى: (وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين)([38]). والعزة التي هي صفة للّه تبارك وتعالى جعلها للناس، ليدرك الإنسان أنه ليس مخلوقاً ليكون ذليلاً ولا مخزياً، وأن سعيه يجب أن يكون لتوفر هذه العزة، فإذا ما حرم هذه العزة، فذلك بتهاونه بحق نفسه فرداً أو مجتمعاً. وهذين المبدئين هما أصل حقوق الإنسان وحرياته، وهذه الحقوق والحريات هي مظهر شخصية الإنسان المعنوية، وهي التعبير عن فاعليته في المجتمع السياسي والقرآن الكريم حينما يؤصل هذين المبدئين «الكرامة» و«العزة» فإنه لا يكتفي بوضع المفهوم الكلي النظري وإنّما يثير في الإنسان شعوره بكرامته وعزته ويسن له من الأحكام العملية التفصيلية التي تتعلق بكافة شؤون الحياة ما يجعل تحقيق هذه المبادئ أمراً واقعاً([39]). أما في السنّة النبوية الشريفة فقد جاءت الأحاديث الكثيرة التي تثبت حقوق الإنسان، وحرياته، ولعل أهم نص من نصوص السنة التي تحدثت عن حقوق الإنسان نص خطبة الوداع التي خطبها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع في أكبر جمع من المسلمين، في السنة العاشرة من الهجرة التي صادفت العام 632 ميلادية. حيث تضمنت هذه الخطبة اعلان مبدأ المساواة بين الناس في أصل العنصر، والمساواة بين الراعي والرعية أي بين الحاكم والمحكوم، والمساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات، ووحدة القانون الذي يخضع الناس وهو كتاب اللّه وسنّة نبيه وهذا هو نص خطبته نثبتها لأهميتها ولتكون في متناول كل دارس لحقوق الإنسان. خطبة الوداع: الحمد للّه نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهد اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد أيها الناس: اسمعوا مني أبيّن لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا. أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم; كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهمّ فاشهد. فمن كانت عنده أمانة فيؤدها إلى من ائتمنه عليها. وإنّ ربا الجاهلية موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. قضى اللّه أنه لا ربا. وإن أول ربا أبدأ به، ربا عمّي العباس بن عبد المطلب. وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به، دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.([40]) وإن مآثر الجاهلية موضوعة، غير السدانة([41]) والسقاية.([42]) والعمد قود. وشبه العمد ما قُتل بالعصا والحجر. وفيه مائة بعير. فمن زاد فهو من أهل الجاهلية. ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد. أما بعد أيها الناس! إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه. ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك، مما تحقرون من أعمالكم. فاحذروه على دينكم. أيها الناس! «إنّما النسىء([43]) زيادة في الكفر، يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ما حرم اللّه، فيحلّوا ما حرم اللّه» ويحرموا ما أحل اللّه. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض وإن عدّة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مُضر، الذي بين جمادي وشعبان. ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد. أما بعد أيها الناس! إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق: لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بـإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن، فإن اللّه قد أذن لكم أن تعضلوهنّ وتهجروهنّ في المضاجع، وتضربوهنّ ضرباً غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم، فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنّما أخذتموهن بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه. فاتقوا اللّه في النساء واستوصوا بهنّ خيراً. ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد. أيها الناس! إن ربّكم واحد وإن أباكم واحد. كلكم لآدم; وآدم من تراب. أكرمكم عند اللّه أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد. قالوا: نعم. قال: فليبلّغ الشاهد الغائب. أيها الناس! إن اللّه قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث. ولا يجوز لوارث وصية. ولا يجوز وصية في أكثر من الثلث. والولد للفراش وللعاهر الحجر. من ادّعى إلى غير أبيه أو تولّى غير مواليه، فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدم. والسلام عليكم. المبحث الثاني - الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان: بدأ الاهتمام بإصدار شرعة حقوق الإنسان في الإسلام من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1979 حيث قرر المؤتمر العاشر لوزراء الخارجية تشكيل لجنة مشاورة من المتخصصين الإسلاميين لإعلان لائحة بحقوق الإنسان. واستمر العمل والبحث وأحيل عمل اللجنة لدراسته في لجان أخرى إلى حين أنعقد اجتماع طهران في كانون الأول سنة 1989 حيث تمت مناقشة المشروع بـإسهاب بحضور عدد من علماء الشريعة والدين من مختلف البلد ان وأعدت الصيغة النهائية التي تمت الموافقة عليها نهائياً في المؤتمر التاسع عشر لوزراء الخارجية لدول منظمة المؤتمر الإسلامي([44]). تكملة المقالة في الصفحة التالية