ـ(254)ـ ولهذا عندما جمع سيدنا محمد صلى الله عليه وآله قريشا لأول مرة بعد إعلان النبوة على جبل الصفا ثمّ سألهم: "يا بطون قريش ! أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي ؟" فردوا كلهم بـ "نعم ما جربنا عليك كذبا قط !". ومن الدلائل الدامغة على صدق الرسول محمد صلى الله عليه وآله وأمانته وصيته لابن عمه- الذي خلفه في فراشه ساعة الهجرة الخطرة الحرجة- برد جميع الأمانات المعهودة إليه إلى أصحابها. إن التاريخ الإنساني برمته لم يشهد رجلا أدلى خصومه بآراء مثالية عن سيرته وحياته مثل ما أدلى به خصوم رسول الإسلام. فقد وقف النضر بن الحارث الذي كان ممن يعادي رسول الله صلى الله عليه وآله ويؤذيه يوماً في جمع من قريش وخطب قائلاً: "يا معشر قريش، انه والله قد نزل بكم أمر ما أوتيتم لـه بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا والله، ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر لا والله، ما هو بشاعر قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها، هزجه ورجزه، وقلتم مجنون، لا والله، ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه. يا معشر قريش ! فانظروا في شأنكم فإنه والله، لقد نزل بكم أمر عظيم"(1). وكان أبو لهب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله من ألد أعدائه، وقال لـه ذات مرة: "يا محمد ! إنني لا أقول: إنك كاذب، ولكن الأمر الذي تقوم بتبليغه باطل" (2) وهذا يؤكد أن صدق ________________________________ 1ـ سيرة ابن هشام 1: 319. 2ـ الترمذي