[ 171 ] إليك، وأستعين بالله عليك، وبما صار معى من كريم جسدك، وطيب جوارحك، ليحي عبدك. فأخذ هارون ذلك فلثمه، ثم استعبر وبكى بكاء شديدا، وبكى أهل المجلس، ومر البشير إلى يحيى، وهو لا يظن إلا أن البكاء رحمة له، ورجوع عنه. فلما أفاق رمى جميع ذلك في الحق، وقال لها: لحسن ما حفظت الوديعة: قالت: وأهل للمكافأة أنت يا أمير المؤمنين. فسكت: وطبع الحق، ودفعه إليها، وقال: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها "، قالت: يا أمير المؤمنين وقال عز وجل: " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل "، وقال تعالى: " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم "، فقال لها: وما ذاك يا أم الرشيد ؟ قالت: ما أقسمت لى به يا أمير المؤمنين، أن لا يحجبك عنى حاجب. فقال لها: يا أم الرشيد، أحب أن تشتريه محكمة فيه. قالت: أنصفت يا أمير المؤمنين، وقد فعلت غير مستقيلة لك، ولا راجعة عنك. قال: بكم ؟ قالت: برضاك عمن لم يسخطك: قال: يا أم الرشيد، أمالى عليك من الحق مثل الذى لهم ؟ قالت: بلى يا أمير المؤمنين إنك لاعز علي، وهم أحب إلي. قال: إذا فتحكمي في ثمنه بغيرهم. قالت: بلى وقد وهبتكه وجعلتك في حل منه، وقامت عنه، فبقى الرشيد مبهوتا، ما يحير لفظة. قال سهل: وخرجت عنه فلم تعد إليه، ولا والله إن رأيت عينى لعينها عبرة، ولا سمعت أذنى لنعيها أنه. قال سهل: وكان الامين رضيع يحيى بن جعفر، فمت إليه يحيى بن خالد بذلك، فوعده استيهاب أمه إياهم، ثم شغله اللهو عنهم، فكتب إليه يحي، وقيل: إنها لسليمان الاعمى أخى مسلم بن الوليد: يا ملاذي وعصمتي وعمادي * ومجيري من الخطوب الشداد بك قام الرجاء في كل قلب * زاد فيه البلاء كل مزاد إنما أنت نعمة أعقبتها * أنعم نفعها لكل العباد وعد مولاك أتممتة فأبهى الد * ر ما زين حسنه بانعقاد ما أظلت سحائب اليأس إلا * خلت في كشفها عليك اعتمادي إن تراخت بداك عنى فواقا * أكلتنى الايام أكل الجراد وبعث بها إليه، فبعثها الامين إلى أمه زبيدة، فأعطها الرشيد وهو في موضع لذاته، وفي إقبال من أريحيته، وتهيأت للاستشفاع لهم، وهيأت جواريها ومغنياتها، وأمرتهن بالقيام إليه معها. فلما فرغ الرشيد من قراءتها لم ينقض حبوته (1) حتى وقع في أسفلها: عظيم ذنبك أمات ________________________________________ (1) لم ينقض حبوته: أي لم يتحرك من مكانه، وأصل الحبوة أن يجلس الرجل واضعا ركبتيه منصوبتى الساقين ملتصتقين ببطنه، ولكن المراد هنا لم يتحرك من مكانه. (*) ________________________________________