[ 169 ] ولئن حط قدرك لقد علا ذكرك. قال سهل: وأمر بضم أموالهم، فوجد من العشرين ألفا التى كانت مبلغ جبائهم اثنى عشر ألف ألف مكتوبا على بدرها صكوك مختومة، بتفسيرها وفيمن حبوا بها، فما كان منها حباء على غريبة أو استطراف ملحة تصدق يحى بها، وأثبت ذلك في ديوانها على تواريخ أيامها، وساعات أعطياتها، فكان ديوان إنفاق، واكتساب فائدة، وقبض من سائر أموالهم ثلاثين ألف ألف وست مئة ألف وستين ألفا إلى سائر ضياعهم وغلاتهم ودورهم ورباعهم ورياشهم، والدقيق (1) والجليل من مواعينهم، فإنه لا يصف أقله، ولا يعرف أكثره إلا من أحصى الاعمال، وعرف منتهى الآجال. وأبرزت حرمه إلى دار البانوقة ابنة المهدى، فو الله ما علمته عاش ولا عشن إلا من صدقات من لم يزل متصدقا عليه، وصار من موجدة الرشيد فيما لم يعلم من ملك قبله على آخر ملكه. وكانت أم جعفر بن يحى فاطمة بنت محمد بن الحسن بن الحسن بن قحطبة بن شبيب قد أرضعت الرشيد مع جعفر، وكان ربي في حجرها، وغذي برسلها، لان أمه ماتت عن مهده، فكان الرشيد يشاورها مظهرا لاكرامها، والتبرك برأيها، وكان قد آلى على نفسه، وهو في كفالتها أن لا يحجبها، وأن لا تستشفعه لاحد إلا شفعها، وآلت عليه أم جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذونا لها، ولا تشفعت لاحد لغرض دنيا. قال سهل: فكم أسير فكت، ومبهم عنده فتحت، ومستغلق منه فرجت. قال: واحتجب الرشيد بعد قدومه، فطلبت الاذن عليه من دار البانوقة، ومتت بوسائلها إليه، فلم يأذن لها ولا أمر بشئ فيها، فلما طال ذلك بها خرجت كاشفة وجهها، واضعة لثامها، محتفية في مشيتها، حتى صارت بباب قصر الرشيد، فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب، فقال ظئر (2) أمير المؤمنين بالباب، في حالة تقلب شماتة الحاسد إلى حنين الولد وشفقة أم الواحد، فقال له الرشيد: ويحك يا ابن الفضل: أو ساعية ؟ فقال: نعم أصلح الله الامير حافية. فقال: أدخلها يا عبد الملك، فرب كبد كريم غذتها، وكربة فرجتها، وعورة سترتها. فقال سهل: فو الله ما شككت في شئ قط ما شكتت يومئذ في إجابة طلابها وإسعافها بحاجتها. فلما دخلت ونظر إليها داخلة محتفية قام محتفيا حتى تلقاها بين عمد المجلس، فأكب على تقبيل رأسها ومواضع ثديها، ثم أجلسها معه. فقالت يا أمير المؤمنين، أيعدو علينا الزمان، ويجفونا خوفا لك الاخوان، يحردك بنا البهتان، ويوسوس لك بأذانا الشيطان، وقد ربيتك ________________________________________ (1) الدقيق: الصغير الحقير، والجليل الكبير العظيم. (2) الظئر: في الاصل العاطفة على ولد غيرها ثم أطلق على المرضعة لولد غيرها، أي مرضعة أمير المؤمنين بالباب، ويطلق الطئر أيضا على الرجل زوج المرضعة لغير ولدها. (*) ________________________________________