[ 166 ] فقال له أمير المؤمنين: أرضيت يا أعرابي ؟ فقال: ما بقى لى شئ يا أمير المؤمنين إلا الحملان والكسوة، وطرائف الكوفة، وتحف البصرة، وجوائز الضيافة وحقها. فقال الرشيد: وما يصلح لك من الحملان يا أعرابي ؟ فقال: أقصد ما يكون دابة للجمال، وأخرى للحملان وثلاثة للاسترحال، ولابني مثل ذلك، ومن الكسوة ما لابد منه من ثياب المهنة والاستشعار، ومالا غنى عنه من الوطاء والدثار، مع رائع الثياب التى تكون للجمال والجماعات والاعياد، ولابني وبنى ابني مثل ذلك. فدعا الرشيد بجعفر بن يحيى وقال: أرحني من هذا، وأمر له بما سأل من الحملان، وما أراد به من ثياب المهنة والجمال، وأغدق عليه من التحف والطرائف ما ترضيه به، وأخرجه عنى، فخرج جعفر فأمر له بما سأل وأعطاه ما أراد. ثم انصرف الاعرابي راجعا إلى الحجاز بأموال عظيمة، لا يوصف أكثرها، ولا يعرف أقلها، وكل هذا يقل عندما عرف من جود الرشيد وسخائه، وجزيل عطائه، قتل جعفر بن يحيى بن يرمك قال عمرو بن بحر الجاحظ: حدثنى سهل بن هارون، قال: والله إن كان سجاعو الخطب، ومحبر والقريض لعيالا على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر بن يحيى، ولو كان كلام يتصور درا، ويحيله المنطق السري، جوهرا، لكان كلامهما، والمنتقى من لفظهما، ولقد كانا مع هذا عند كلام الرشيد، في بديهته وتوقيعاته في أسافل كتبه، عيين، وجاهلين أميين، ولقد عبرت معهم وأدركت طبقة المتكلمين في أيامهم، وهم يرون أن البلاغة لم تستكمل إلا فيهم، ولم تكن مقصورة إلا عليهم، ولا انقادت إلا لهم، وأنهم محض (1) الانام، ولباب الكرام، وملح الايام، عتق منظر، وجودة مخبر، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاهة أنفس، واكتمال خصال، حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم، والمأثور من خصالهم كثير أيام من سواهم، من لدن آدم أبيهم إلى نفخ الصور، وانبعاث أهل القبور، حاشا أنبياء الله المكرمين، وأهل وحيه المراسلين، لما باهت إلا بهم، ولا عولت في الفخر إلا عليهم، ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم، وكريم أعراقهم، وسعة آفاقهم، ورفق ميثاقهم، ومعسول مذاقهم، وسنى إشرافهم، ونقاوة أعراضهم، وطيب أغراضهم، واكتمال خلال الخير فيهم إلى مل ء الارض مثلهم، في جنب محاسن المأمون كالنفثة في البحر، وكالخردلة في المهمه القفر. قال سهل: إني لمحصل أرزاق العامة بين يدى يحيى بن خالد في داخل سرادقه، وهو مع الرشيد بالرقة (2)، وهو يعقدها جملا بكفه، إذ غشيته سآمة، وأخذته سنة، فغلبته عيناه. فقال: ________________________________________ (1) خلاصة الناس. (2) الرقة: بلدي على الفرات وأخرى غربي بغداد. (*) ________________________________________