[ 93 ] فخلقت الخلق لاعرف " وقال: * (ما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) * وذلك الغرض لا يتصور حصوله إلا باستعمال العقل والفهم خص الله سبحانه أهلهما بالبشارة تعظيما وتكريما لهم وأما غيرهم فلكونهم بمنزلة همج رعاع غير قابلين للبشارة والخطاب لأنهم من أهل الضرر والزمانة كما مر في صدر الكتاب (فقال فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) في إضافة العباد سبحانه تشريف لهم بشرف الاختصاص والتكريم، وفي عدم ذكر المبشر به دلالة على التفخيم والتعظيم، وفيه مدح للسالكين في منهج الصواب التابعين للحق في كل باب وقد سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) عن هذه الآية فقال (عليه السلام): " هم المسلمون لآل محمد الذين إذا سمعوا الحديث لم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه جاؤا به كما سمعوه (1) " ويمكن التعميم بحيث يندرج فيه المترددون بين الفريقين والناصحون بين المتخاصمين يسمعون من أحد الطرفين أقوالا ينقلون إلى أحسنها يرفع التخالف عنهم ويوقع التوافق بينهم ويندرج فيه الناظرون إلى جمال الحقايق بنور البصر والطامحون إلى قعر المعارف بغوص الفكر والمجتهدون في سبيل الحق بالاستدلال والنظر فان كل قول صدق وعقد حق له ضد ومعاند، فإن القول بأن الله تعالى موجود، عالم قادر حكيم مثلا ضد أنه ليس بموجود كما يقول الملاحدة، وأنه ليس بعالم على الإطلاق كما يقوله من نفى عنه العلم بالجزئيات وأنه ليس بقادر على إعادة الأجسام كما يقوله من نفى المعاد الجسماني أو أنه ليس بحكيم كما يقوله من نفى التدبير عنه، وقس عليه غير ذلك مما يتعلق بالاصول والفروع، ومن البين أن التمييز بين الصحيح والسقيم من هذه الأمور وغيرها لا يمكن بمجرد الاستماع وإلا لما وقع الخلاف فيها وإنما يمكن بما هو حجة الله تعالى على عباده وهو العقل الصحيح السليم عن غواشي الأجسام ولوابس الأوهام وذلك التمييز يتصور بوجهين، أحدهما: أن العقل الصحيح إذا لاحظ الضدين يجد منهما ما هو أحسن كما هو شأن المجردين من لواحق الأبدان مثل الأنبياء والأولياء. وثانيهما: أن يدرك الأحسن من المبادي المتعلقة به كما هو شأن المجتهدين والبشارة تشمل الجميع (أولئك الذين هداهم الله) يعني أولئك الموصوفون بالصفة المذكورة هداهم الله إلى خير الدنيا والآخرة من أجل تلك الصفة ويحتمل أن يكون جواب سؤال عن سبب تبشيرهم دون غيرهم كأنه قيل: ما لهؤلاء العباد الموصوفين بالصفة المذكورة اتصفوا بالتبشير لهم دون غيرهم ؟ فأجيب بأن السبب هو اختصاصهم بالهداية واللطف والتوفيق لسلوك سبيل الخيرات من الله سبحانه، وعلى التقديرين لا محل لهذه الجملة من الاعراب، وفيه دلالة على أن الهداية أمر حادث من الله تعالى للعقول القابلة المستعدة لها (وأولئك هم أولو الألباب) أي ذوو العقول السليمة عن ________________________________________ 1 - سيأتي في كتاب الحجة باب فضل المسلمين. (*) ________________________________________