[ 19 ] خبر وخبر بعد أخبر. (ولم يتعرف إلى أحد من إخوانه) أي لم يصر معروفا عنده لعدم تردده إليه حتى يعرفه من قولهم: ائت فلانا واستعرف إليه حتى يعرفك، أو لم يتطلب ما عند أحد حتى يعرفه من قولهم: تعرفت ما عند فلان، أي تطلبت حتى عرفت. (قال: فقال: كيف يتفقه هذا في دينه ؟) والسر فيه أن التفقه مطلوب من كل أحد وأنه لا يمكن إلا بالتعلم، لأن العلم بالدين متوقف على السماع من صاحبه وواضعه بواسطة أو بغيرها، والتعلم لا يمكن إلا بالتردد إلى من هو من أهل العلم وطول ملازمته وتكرر مصاحبته والسؤال عنه، فمن لزم بيته وترك التردد أورد نفسه مورد الهلاك كمريض لم يعرض مرضه على طبيب حاذق بل ذاك أشد لأن طبيعة المريض قدتعالج المرض وتدفعه بخلاف طبيعة الجاهل، فإن آثارها وأفعالها تعاضد الجهل وتزيده. لا يقال: هذا ينافي ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " يا أيها الناس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، فطوبى لمن لزم بيته وأكل قوته واشتغل بطاعة ربه وبكى على خطيئته " (1). لأنا نقول: المراد به المنع من الدخول في مجالس يذكر فيها عيوب الناس كما يشعر به صدر الحديث، أو المنع من التوغل في طلب الدنيا وزهراتها، كما يشعر به قوله: " وأكل قوته " يعني قوته المقدر له، أو نقول: هذا الحكم يعني المدح بلزوم البيت مختص بالعالم المستغني عن التعلم، كما يشعر به قوله: " واشتغل بطاعة ربه "، لأن الاشتغال بالطاعة فرع العلم بها وبشرائطها وأحكامها، أو نقول: المراد به الحث على الفرار من شرار الناس وفساقهم كما يشعر به قوله (صلى الله عليه وآله) حين سئل عن أفضل الناس قال: " رجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره " (2). وبالجملة كل من المصاحبة والمخالطة والاعتزال والمفارقة مطلوب في الجملة، والروايات فيها متكاثرة، ولعل السر في ذلك اختلاف الحكم والمصالح بحسب الأزمان والأشخاص، بل بحسب اختلاف حال شخص واحد بحسب الأوقات، فرب زمان يحسن فيه الالفة، وفي زمان آخر يحسن فيه الفرقة، ولذلك كان الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) مع كونهم مأمورين بإرشاد الناس ربما كانوا يفارقونهم ________________________________________ 1 - النهج - في آخر خطبة له (عليه السلام)، أولها: " انتفعوا ببيان الله "، رقمها 174. 2 - رواه أحمد في مسنده ج 3، ص 477، من حديث كرز بن علقمة الخزاعي، قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله) أعرابي فقال: يا رسول الله، هل لهذا الأمر من منتهى ؟ قال: نعم، فمن أراد الله به خيرا من أعجم أو عرب أدخله عليهم، ثم تقع فتن كالظلل يعودون فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض وأفضل الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب.. الحديث. (*) ________________________________________