(492) حكى الله تعالى في هذه الاية قصة نوح وقومه بأوجز لفظ وأبلغه، وبلوغ الغاية التي لاتدانيها بلاغة ولاتقاربها فصاحة، لان قوله " وقيل يا أرض ابلعي ماءك " اخبار منه عن إذهاب الماء عن وجه الارض في أوجز مدة فجرى ذلك مجرى ان قال لها ابلعي فبلعت. والبلع في اللغة انتزاع الشئ من الحلق إلى الجوف، فكانت الارض تبلع الماء هكذا حتى صار في بطنها الغراء، يقال: بلعت وبلعت بفتح اللام وكسرها. وقوله " ويا سماء اقلعي " اخبار أيضا عن اقشاع السحاب، وقطع المطر في أسرع وقت، فكأنه قال لها اقلعي فأقلعت. والاقلاع إذهاب الشئ من اصله حتى لايبقى منه شئ. وأقلع عن الامر إذا تركه رأسا. وقوله " وغيض الماء " أي أذهب به عن وجه الارض إلى باطنها، يقال: غاض الماء يغيض غيضا إذا ذهب في الارض. وقوله " وقضي الامر " معناه أوقع الهلاك بقوم نوح على تمام والقضاء وقوع الامر على تمام وإحكام. وقوله " واستوت على الجودي " جبل معروف. قال الزجاج بناحية أمد، وقال غيره: بقرب جزيرة الموصل، قال زيد بن عمربن نفيل: وقبلنا سبح الجودي والجمد. وقيل: أرست على الجودي شهرا، وقال قتادة: اهبطوا يوم عاشوراء. وقوله " وقيل بعدا للقوم الظالمين " معناه أبعدهم الله من الخير بعدا، على وجه الدعاء. ويجوز أن يكون الله تعالى قال لهم ذلك. ويجوز أن يكون المؤمنون دعوا عليهم بذلك، وهو منصوب على المصدر. وقيل في هذه الاية وجوه كثيرة من عجيب البلاغة: منها انه خرج مخرج الامر على وجه التعظيم من نحو " كن فيكون " (1) لانه من غير معاناة، ولا ـــــــــــــــــــــــ (1) سورة 2 البقرة آية 118 وسورة 3 آل عمران آية 47، 59 وسورة 6 الانعام آية 73 وسورة 16 النحل آية 40 وسورة 19 مريم آية 35 وسورة 36 يس آية 82 وسورة 40 المؤمن آية 68. (*)