جلى الغاية وإن لم يفهموا معناه ولم تصل مداركهم إلى مرماه وجاءتهم من الآيات بما تطرف له عيونهم وتنفعل به مشاعرهم وفرضت عليهم من العبادات ما يليق بحالهم هذه .
ثم مضت على ذلك أزمان علت فيها الأقوام وسقطت وارتفعت وانحطت وجربت وكسبت وتخالفت واتفقت وذاقت من الأيام آلاما وتقلبت فى السعادة والشقاء أياما واياما ووجدت الأنفس بنفث الحوادث ولقن الكوارث شعورا أدق من الحس وأدخل فى الوجدان لا يرتفع فى الجملة عما تشعر به قلوب النساء أو تذهب معه نزعات الغلمان فجاء دين يخاطب العواطف ويناجى المراحم ويستعطف الأهواء ويحادث خطرات القلوب فتشرع للناس من شرائع الزهادة ما يصرفهم عن الدنيا بجملتها ويوجه وجوههم نحو الملكوت الأعلى ويقتضى من صاحب الحق أن لا يطالب به ولو بحق ويغلق أبواب السماء فى وجوه الأغنياء وما ينحو نحو ذلك مما هو معروف وسن للناس سننا فى عبادة الله تتفق مع ما كانوا عليه وما دعاهم إليه فلاقى من تعلق النفوس بدعوته ما أصلح من فاسدها وداوى من أمراضها ثم لم يمض عليه بضعة أجيال حتى ضعفت العزائم البشرية عن احتماله وضاقت الذرائع عن الوقوف عند حدوده والأخذ بأقواله ووقر فى الظنون أن اتباع وصاياه ضرب من المحال فهب القائمون عليه أنفسهم لمنافسة الملوك فى السلطان ومزاحمة أهل الترف فى جمع الأموال وانحرف الجمهور الأعظم منهم عن جادته بالتأويل وأضافوا عليه ما شاء الهوى من الأباطيل هذا كان شأنهم فى السجايا والأعمال نسوا طهارته وباعوا نزاهته أما فى العقائد فتفرقوا شيعا وأحدثوا بدعا ولم يستمسكوا من أصوله إلا بما ظنوه من أشد أركانها وتوهموه من أقوى دعائمها وهو حرمان العقول من النظر فيه بل وفى غيره من دقائق الأكوان والحظر على الأفكار أن تنفذ إلى شىء من سرائر الخلقة فصرحوا بأن لا وفاق بين الدين والعقل وأن الدين من أشد أعداء العلم ولم يكف الذاهب إلى ذلك أن يأخذ به نفسه بل جد فى حمل الناس على مذهبه بكل ما يملك من حول وقوة وأفضى الغلو فى ذلك بالأنفس إلى نزعة