@ 322 @ صَدَقَاتِكُم } من أن الصدقة وقعت صحيحة ثم بطلت بالمنّ والأذى ، وتقدّم القول بأن المعنى : لا توقعوها باطلة ، ويدل على هذا المعنى التشبيه بقوله : كالذي ينفق ، فان نفقته وقعت باطلة لمقارنة الكفر لها ، فيمتنع دخولها صحيحة في الوجود . .
وأما التمثيل الثاني فإنه عند عبد الجيار وأصحابه ، جعل الوابل مزيلاً لذلك التراب بعد كينونته عليه ، فكذلك المنّ والأذى مزيلان للأجر بعد حصول استحقاقه ، وعند غيرهم أن المشبه بالتراب الواقع على الصفوان هو الصدقة المقترنة بالنية الفاسدة التي لولاها لكانت الصدقة مرتباً عليها حصول الأجر والثواب . قيل : والحمل على هذا المعنى أولى ، لأن التراب إذ وقع على الصفوان لم يكن ملتصقاً به ، ولا غائضاً فيه ، فهو في مرأى العين متصل ، وفي الحقيقة منفصل . فكذا الإنفاق المقرون بالمنّ والأذى ، يرى في الظاهر أنه عمل بر وفي الحقيقة ليس كذلك ، وعلى هذين القولين يكون التقدير : لا تبطلوا أجور صدقاتكم ، أو : لا تبطلوا أصل صدقاتكم . .
وقرأ ابن المسيب ، والزهري : صفوان بفتح الفاء ، قيل : وهو شاذ في الأسماع . إنما بابه المصادر : كلغليان والتروان ، وفي الصفات نحو : رجل صيحان ، وتيس عدوان . .
وارتفع تراب على الفاعلية ، أي : استقر عليه تراب ، فأصابه وابل . و : فأصابه ، معطوف على ذلك الفعل الرافع للتراب ، والضمير في : فأصابه ، عائد على الصفوان ، ويحتمل أن يعود على التراب ، وفي : فتركه ، عائد على الصفوان . وهذه الجملة جعل فيها العمل الظاهر : كالتراب ، والمانّ المؤذي ، أو المنافق كالصفوان ، ويوم القيامة كالوابل ، وعلى قول المعتزلة : المنّ والأذى كالوابل . .
وقال القفال : وفيه احتمال آخر ، وهو أن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة ، فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذراً في أرض طيبة ، فهو يتضاعف له وينمو ، ألا ترى أنه ضرب المثل في ذلك بجنة فوق ربوة ؟ فهو يجده وقت الحاجة إليه . وأما المان والمؤذي والمنافق ، فكمن بذر في الصفوان لا يقبل بذراً ولا ينمو فيه شيء ، عليه غبار قليل أصابه جود فبقي مستودع بذر خالياً ، فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئاً . إنتهى ما لخص من كلامه . وحاصله : أن التشبيه انطوى من حيث المعنى على بذر وزرع . .
{ لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْء مّمَّا كَسَبُواْ } اختلف في الضمير في : يقدرون ، فقيل : هو عائد على المخاطبين في قوله : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم } ويكون من باب الالتفات ، إذ هو رجوع من خطاب إلى غيبة ، والمعنى : أنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على الانتفاع بشيء مما كسبتم ، وهذا فيه بعد . وقيل : هو عائد على { الَّذِى * يُنفِقُ } لأن : كالذي جنس ، فلك أن تراعي لفظه كما في قوله : { يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ } فأفرد الضمير ، ولك أن تراعي المعنى ، لأن معناه جمع ، وصار هذا { كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } ثم قال : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } . .
قال ابن عطية : وقد انحمل الكلام قبل على لفظ : الذي ، وهذا هو مهيع كلام العرب ، ولو انحمل أولاً على المعنى لقبح بعد أن يحمل على اللفظ . إنتهى كلامه . .
وقد تقدّم لنا الكلام معه في شيء من هذا ، وفي الحمل على اللفظ أو المعنى تفصيل لا يوجد إلاَّ في مبسوطات النحو . .
وقيل : هو عائد على معلوم غير مذكور المعنى لا يقدر أحد من الخلق على الانتفاع بذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي على الصفوان ، لأنه زال ذلك التراب وزال ما كان فيه ، فكذلك المان والمؤذي والمنافق ، لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة . وقيل : هو عائد على المرائي الكافر أو المنافق ، أو على المان ، أي : لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم ، وهو كسبهم ، عند حاجتهم إليه ، وعبروا عن النفقة بالكسب لأنهم قصدوا بها الكسب ، وهذا كقوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } وقوله : { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } الآية . وقوله : { أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } ويكفي من ذكر العمل لغير وجه الله حديث الثلاثة الذين هم أوّل الناس يقضى عليه يوم القيامة ، وهو : المستشهد والعالم والجواد . .
{ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } يعني الموافقين على الكفر ، ولا يهديهم في كفرهم بل هو ضلال محض . أو : لا يهديهم في أعمالهم ، هم على الكفر ، وفي هذا ترجح لمن قال : إن ضرب المثل عائد على الكافر . .
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغَاء * مَرْضَاتَ * اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } لما ضرب مثل : من أنفق ماله رئاء الناس وهو غير مؤمن ، ذكر ضدّه بتمثيل محسوس للذهن ، حتى يتصوّر السامع