@ 321 @ يتبعها ، لأن الأذى يشمل المن وغيره كما قلنا . .
{ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ } أي غني عن الصدقة ، حليم بتأخر العقوبة ، وقيل : غني لا حاجة به إلى منفق يمن ويؤذي ، حليم عن معاجلة العقوبة . وهذا سخط منه ووعيد . .
{ حَلِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ } لما شرط في الإنفاق أن لا يتبع مناً ولا أذىً ، لم يكتفِ بذلك حتى جعل المن والأذى مبطلاً للصدقة ، ونهى عن الإبطال بهما ليقوي اجتناب المؤمن لهما ، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان . ولما جرى ذكر المن والأذى مرتين ، أعادهما هنا بالألف واللام ، ودلت الآية على أن المن والأذى مبطلان للصدقة ، ومعنى إبطالهما أنه لا ثواب فيها عند الله . والسدي يعتقد أن السيئات لا تبطل الحسنات ، فقال جمهور العلماء : الصدقة التي يعلم الله من صاحبها انه يمن ويؤذى لا تتقبل ، وقيل : جعل الله للملك عليها إمارة ، فهو لا يكتبها إذ نيته لم تكن لوجه الله . .
ومعنى قوله : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم } أي : لا تأتوا بهذا العمل باطلاً ، لأنه إذا اقصد به غير وجه الله فقد أتى به على جهة البطلان . وقال القاضي عبد الجبار : معلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدّمت ، فلا يصح أن تبطل . فالمراد إذن إبطال أجرها ، لأن الأجر لم يحصل بعد ، وهو مستقبل ، فيصير إبطاله بما يأتيه من المن والأذى . إنتهى كلامه . .
والمعنيان تحملهما الآية ، ولتعظيم قبح المن أعاد الله ذلك في معارض الكلام ، فأثنى على تاركه أولاً وفضل المنع على عطية يتبعها المن ثانياً . وصرح بالنهي عنها ثالثاً ، وخص الصدقة بالنهي إذ كان المن فيها أعظم وأشنع . والظاهر أن قوله : بالمن ، معناه على الفقير ، وهو قول الجمهور . .
وقال ابن عباس : بالمن على الله تعالى بسبب صدقته ، والأذى للسائل . و : الكاف ، قيل في موضع نعت لمصدر محذوف تقديره إبطالاً ، كابطال صدقة الذي ينفق ، وقيل : الكاف في موضع الحال ، أي : لا تبطلوا مشبهين الذي ينفق ماله بالرياء . .
وفي هذا المنفق قولان : .
أحدهما : أنه المنافق ، ولم يذكر الزمخشري غيره ينفق للسمعة وليقال إنه سخي كريم ، هذه نيته ، لا ينفق لرضا الله . وطلب ثواب الآخرة ، لأنه في الباطن لا يؤمن بالله واليوم الآخر . .
وقيل : المراد به الكافر المجاهر ، وذلك بإنفاقه لقول الناس : ما أكرمه وأفضله ولا يريد بإنفاقه إلاَّ الثناء عليه ، ورجح مكي القول الأول بأنه أضاف إليه الرياء ، وذلك من فعل المنافق الساتر لكفره ، وأما الكافر فليس عنده رياء لأنه مناصب للدّين مجاهر بكفره . .
وانتصاب رئاء على أنه مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال . .
وقرأ طلحة بي مصرف : رياءً بابدال الهمزة الأولى ياءً لكسر ما قبلها ، وهي مروية عن عاصم . .
{ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا } هذا تشبيه ثان ، واختلف في الضمير في قوله : { فَمَثَلُهُ } فأظاهر أنه عائد على { الَّذِى * يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ } لقربه منه ، ولإفراده ضرب الله لهذا المنافق المرائي ، أو الكافر المباهي ، المثل بصفوان عليه تراب ، يظنه الظان أرضاً منبتة طيبة ، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب ، فيبقى صلداً منكشفاً ، وأخلف ما ظنه الظان ، كذلك هذا المنافق يرى الناس أن له أعمالاً كما يُرى التراب على هذا الصفوان ، فإذا كان يوم القيامة اضمحلت وبطلت ، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب . وقيل : الضمير في { فَمَثَلُهُ } عائد على المانِّ المؤذي ، وأنه شبه بشيئين أحدهما : بالذي ينفق ماله رئاء الناس ، والثاني : بصفوان عليه تراب ، ويكون قد عدل من خطاب إلى غيبة ، ومن جمع إلى افراد . .
قال القاضي عبد الجبار : ذكر تعالى لكيفية إبطال الصدقة بالمنّ والأذى مثلين ، فمثله أولاً بمن ينفق ماله رئاء الناس ، وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، لأن إبطال نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها بالمنّ والأذى . ثم مثله ثانياً بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار . ثم إذا أصابه المطر القوي فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما عليه تراب ولا غبار أصلاً ، قال : فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان ، فكذا المنّ والأذى يجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله ، وذلك صريح القول في الإحاطة والتكفير . إنتهى كلامه . وهو مبني على ما قدّمناه عنه في القول في الإحباط والتكفير في قوله : { لاَ تُبْطِلُواْ