@ 59 @ .
قيل : ويجوز أن يكون من الفجر حالاً من الضمير في الأبيض ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف ، أي : كائناً من الفجر ، ومن أجاز أن تكون من للبيان أجاز ذلك هنا ، فكأنه قيل : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض الذي هو الفجر ، من الخيط الأسود ، واكتفى ببيان الخيط الأبيض عن بيان الخيط الأسود ، لأن بيان أحديهما بيان للثاني ، وكان الاكتفاء به أولى ، لأن المقصود بالتبين ، والمنوط بتبيينه : الحكم من إباحة المباشرة ، والأكل ، والشرب . ولقلق اللفظ لو صرح به ، إذ كان : يكون حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر من الليل ، فيكون من الفجر بياناً للخيط الأبيض ، ومن الليل بياناً للخيط الأسود . ولكون : من الخيط الأسود ، جاء فضلة فناسب حذف بيانه . .
{ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ } : تقدم ذكر وجوب الصوم ، فلذلك ، لم يؤمر به هنا ، ولم يتقدّم ذكر غايته ، فذكرت هنا الغاية ، وهو قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ } والغاية تأتي إذا كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها ، لم يدخل في حكم ما قبلها ، و : الليل ، ليس من جنس النهار ، فلا يدخل في حكمه ، لكن من ضرورة تحقق علم انقضاء النهار دخول جزء ما من الليل . .
قال ابن عباس : أهل الكتاب يفطرون من العشاء إلى العشاء ، فأمر الله تعالى بالخلاف لهم ، وبالإفطار عند غروب الشمس . .
والأمر بالإتمام هنا للوجوب ، لأن الصوم واجب ، فإتمامه واجب ، بخلاف : المباشرة ، والأكل ، والشرب ، فإن ذلك مباح في الأصل ، فكان الأمر بها الإباحة . .
وقال الراغب : فيه دليل على جواز النية بالنهار ، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر ، وعلى نفي صوم الوصال . انتهى . .
أما كون الآية تدل على جواز النية بالنهار فليس بظاهر ، لأن المأمور به إتمام الصوم لا إنشاء الصوم ، بل في ذلك إشعار بصوم سابق أمرنا بإتمامه ، فلا تعرض في الآية للنية بالنهار . .
وأما جواز تأخير الغسل إلى الفجر فليس بظاهر من هذه الآية أيضاً ، بل من الكلام الذي قبلها . .
وأما الدلالة على نفي صوم الوصال ، فليس بظاهر ، لأنه غياً وجوب إتمام الصوم بدخول الليل فقط ، ولا منافاة بين هذا وبين الوصال ، وصح في الحديث النهي عن الوصال ، فحمل بعضهم النهي فيه على التحريم ، وبعضهم على الكراهة . وقد روي الوصال عن جماعة من الصحابة والتعابعين ، كعبد الله بن الزبير ، وإبراهيم التيمي ، وأبي الحوراء ، ورخص بعضهم فيه إلى السحر ، منهم : أحمد ، وإسحاق ، وابن وهب . .
وظاهر الآية وجوب الإتمام إلى الليل فلو ظن أن الشمس غربت فأفطر ثم طلعت الشمس فهذا ما أتم إلى الليل فيلزمه القضاء ولا كفارة عليه ، وهو قول الجمهور ، وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم ؛ وقال إسحاق وأهل الظاهر : لا قضاء عليه كالناسي ؛ وروي ذلك عن عمر ، وقال مالك : من أفطر شاكاً في الغروب قضى وكفر ؛ وفي ثمانية أبي زيد : عليه القضاء فقط قياساً على الشاك في الفجر ، فلو قطع الإتمام متعمد الجماع ، فالإجماع على وجوب القضاء ، أو بأكل وشرب وما يجرى مجراهما فعليه القضاء عند الشافعي ، والقضاء والكفارة عند بقية العلماء ، أو ناسياً بجماع فكالمتعمد عند الجمهور وفي الكفارة خلاف عن الشافعي أو بأكل وشرب فهو على صومه عند أبي حنيفة والشافعي ، وعند مالك يلزمه القضاء ، ولو نوى الفطر بالنهار ولم يفعل ، بل رفع نية الصوم ، فهو على صومه عند الجمهور ، ولا يلزمه قضاء ، قال ابن حبيب ؛ وعند مالك في المدوّنة : أنه يفطر وعليه القضاء . .
وظاهر الآية يقتضي أن الإتمام لا يجب إلاَّ على من تقدّم له الصوم ، فلو أصبح مفطراً من غير عذر لم يجب عليه الإمساك ، لأنه لم يسبق له صوم فيتمه ، قالوا : لكن السنة أوجبت عليه الإمساك ، وظاهر الآية يقتضي وجوب إتمام الصوم النفل على ما ذهبت إليه الحنيفة لأندراجه تحت عموم : وأتموا الصيام . .
وقالت الشافعية : المراد منه صوم الفرض ، لأن ذلك إنما ورد لبيان أحكام الفرض . قال بعض أرباب الحقائق : لما علم تعالى أنه لا بد للعبد من الحظوظ ، قسم الليل والنهار في هذا الشهر بين حقه وحظك ، فقال في حقه { وَأَتِمُّواْ * الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى } . وحظك : { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ } . .
{ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } لما أباح لهم المباشرة في ليلة الصيام ، كانوا إذا كانوا معتكفين ودعت ضرورة أحدهم إلى الجماع خرج إلى امرأته فقضى ما في نفسه ثم اغتسل وأتى المسجد ، فنهوا عن ذلك في حال اعتكافهم داخل المسجد وخارجه وظاهر الأية وسياق المباشرة المذكورة قبل . .
وسبب النزول أن المباشرة هي الجماع فقط ، وقال