@ 618 @ كما وفاذكروني جوابين للأمر ، والأول أفصح وأشهر . وتقول : كما أحسنت إليك فأكرمني ، يصح أن يجعل الكاف متعلقة بأكرمني ، إذ لا جواب له . انتهى كلامه . ورجح مكي قول من قال إنها متعلقة بما قبلها ، وهو : { وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ } ، لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى : ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم ، كما أجبنا دعوته فيكم ، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم يتلو . وما ذهب إليه مكي من إبطال أن ، تكون كما متعلقة بما بعدها من الوجه الذي ذكر ليس بشيء ، لأن الكاف ، إما أن تكون للتشبيه ، أو للتعليل . فإن كانت للتشبيه ، فتكون نعتاً لمصدر محذوف ، ويجوز تقدّم ذلك المصدر على الفعل ، مثال ذلك : أكرمني إكراماً مثل إكرامي السابق لك أكرمك ، فيجوز تقديم هذا المصدر . وإن كانت للتعليل ، فيجوز أيضاً تقدم ذلك على الفعل ، مثال ذلك : أكرمني لا كرامي لك أكرمك ، لا نعلم خلافاً في جواز تقديم هذا المصدر وهذه العلة على الفعل العامل فيهما ، وتجويز مكي ذلك على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين وتسميته ، كما وفاذكروني جوابين للأمر ، ليس بصحيح لأن كما ليس بجواب ، ولأن ذلك التشبيه فاسد ، لأن المصدر لا يشبه الجواب ، وكذلك التعليل . أما المصدر التشبيهي ، فهو وصف في الفعل المأمور به ، فليس مترتباً على وقوع مطلق الفعل ، بل لا يقع الفعل إلا بذلك الوصف . وعلى هذا لا يشبه الجواب ، لأن الجواب مترتب على نفس وقوع الفعل . وأما التعليل ، فكذلك أيضاً ليس مترتباً على وقوع الفعل ، بل الفعل مترتب على وجود العلة ، فهو نقيض الجواب ، لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل ، والعلة مترتب عليها وجود الفعل ، فلا تشبيه بينهما ، وإنما يخدش عندي في تعلق كما بقوله : فاذكروني ، هو الفاء ، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيها قبلها ، ولولا الفاء لكان التعلق واضحاً ، وتبعد زيادة الفاء . فبهذا يظهر تعلق كما بما قبلها ، ويكون في ذلك تشبيه إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الإسلام . .
وأفضل الأعمال وأدل الدلائل على الاستمساك بشريعة الإسلام ، بإتمام النعمة السابقة ، بإرسال الرسول المتصف بكونه منهم إلى سائر الأوصاف التي وصفه تعال بها ، وجعل ذلك إتماماً للنعمة في الحالين ، لأن استقبال الكعبة ثانياً أمر لا يزاد عليه شيء ينسخه ، فهي آخر القبلات المتوجه إليها في الصلاة . كما أن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم ) هو آخر إرسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إذ لا نبي بعده ، وهو خاتم النبيين . فشبه إتمام تلك النعمة ، التي هي كمال نعمة استقبال القبل ، بهذا الإتمام الذي هو كمال إرسال الرسل . وفي إتمام هاتين النعمتين عز للعرب ، وشرف واستمالة لقلوبهم ، إذ كان الرسول منهم ، والقبلة التي يستقبلونها في الصلاة بينهم الذي يحجونه قديماً وحديثاً ويعظمونه . .
{ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } : فيه اعتناء بالعرب ، إذ كان الإرسال فيهم ، والرسول منهم ، وإن كانت رسالته عامة . وكذلك جاء { هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ } ، ويشعر هذا الامتنان بإنه لم يسبق أن يرسل ولا يبعث في العرب رسول غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ) ، ولذلك أفرده فقال : { رَسُولاً مّنْهُمْ } ، ووصفه بأوصاف كلها معجز لهم ، وهي كونه منهم ، وتالياً عليهم آيات الله ، ومزكياً لهم ، ومعلماً لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون . وقدم كونه منهم ، أي يعرفونه شخصاً ونسباً ومولداً ومنشأً ، لأن معرفة ذات الشخص متقدمة على معرفة ما يصدر من أفعاله . وأتى ثانياً بصفة تلاوة الآيات إليه تعالى ، لأنها هي المعجزة الدالة على صدقه ، الباقية إلى الأبد . وأضاف الآيات إليه تعالى ، لأنها كلامه سبحانه وتعالى ، ومن تلاوته تستفاد العبادات ومجامع الأخلاق الشريفة ، وتنبع العلوم . وأتى ثالثاً بصفة التزكية ، وهي التطهير من أنجاس الضلال ، لأن ذلك ناشىء عن إظهار المعجز لمن أراد الله تعالى توفيقه وقبوله للحق . وأتى رابعاً بصفة تعليم الكتاب والحكمة ، لأن ذلك ناشىء عن تطهير الإنسان ، باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ) ، فيعلمه إذ ذاك ويفهمه ما انطوى عليه كتاب الله تعالى ، وما اقتضته الحكمة الإلهية . وأتى بهذه الصفات فعلاً مضارعاً ليدل بذلك على التجدد ، لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائماً . وأما الصفة الأولى ، وهي كونه منهم ، فليست بمتجددة ، بل هو وصف ثابت له . وقد تقدم الكلام على هذه الأوصاف في قوله : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ } بأشبع من هذا ، فلينظر هناك . .
وختم هذا بقوله : { وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } ، وهو ذكر عام بعد خاص ، لأنهم لم يكونوا يعلمون الكتاب ولا الحكمة . وفسر بعضهم