@ 607 @ أَهْوَاءهُم } ، اللام أيضاً مؤذنة بقسم محذوف ، ولذلك جاء الجواب بقوله : إنك ، وتعليق وقوع الشيء على شرط لا يقتضي إمكان ذلك الشرط . يقول الرجل لامرأته : إن صعدت إلى السماء فأنت طالق ، ومعلوم امتناع صعودها إلى السماء . وقال تعالى في الملائكة الذين أخبر عنهم : أنهم { لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ، قال : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ } ، وإذا اتضح ذلك سهل ما ورد من هذا النوع . وفهم من ذلك الاستحالة ، لأن المعلق على المستحيل مستحيل . ويصير معنى هذه الجملة ، التي ظاهرها الوقوع على تقدير امتناع الوقوع ، ويصير المعنى : لا يعد ظالماً ، ولا تكونه ، لأنك لا تتبع أهواءهم ، وكذلك لا يحبط عملك ، لأن إشراكك ممتنع ، وكذلك لا يجزي أحد من الملائكة جهنم ، لأنه لا يدعي أنه إلاه . وقالوا : ما خوطب به من هو معصوم مما لا يمكن وقوعه منه ، فهو محمول على إرادة أمته ، ومن يمكن وقوع ذلك منه ، وإنما جاء الخطاب له على سبيل التعظيم لذلك الأمر ، والتفخيم لشأنه ، حتى يحصل التباعد منه . ونظير ذلك قولهم : إياك أعني : واسمعي يا جارة . .
قال الزمخشري : قوله : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم } ، بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله : { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } ، كلام وارد على سبيل الفرض ، والتقدير بمعنى : ولئن اتبعتهم مثلاً بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر ، إنك إذاً لمن المرتكبين الظلم الفاحش . وفي ذلك لطف للسامعين ، وزيادة تحذير واستفظاع بحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى ، وإلهاب للثبات على الحق . انتهى كلامه . وقال في المنتخب : اختلفوا في هذا الخطاب . قال بعضهم : هو للرسول ، وقال بعضهم : هو للرسول وغيره . وقال بعضهم : هو لغير الرسول ، لأنه علم تعالى أن الرسول لا يفعل ذلك ، فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب . أهواءهم : تقدّم أنه جمع هوى ، ولا يجمع على أهوية ، وأكثر استعمال الهوى فيما لا خير فيه ، وقد يستعمل في الخير ، وأصله الميل والمحبة ، وجمع ، وإن كان أصله المصدر ، لاختلاف أغراضهم ومتعلقاتها وتباينها . .
{ مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } : أي من الدلائل والآيات التي تفيد لك العلم وتحصله ، فأطلق اسم الأثر على المؤثر . سمى تلك الدلائل علماً ، مبالغة وتعظيماً وتنبيهاً على أن العلم من أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة . ودلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم . وقد فسر العلم هنا بالحق ، يعني أن ما جاءه من تحويل القبلة هو الحق . وقال مقاتل : العلم هنا : البيان ، وجاء في هذا المكان : { مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ } ، وقال قبل هذا : { بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ } ، وجاء في الرعد : { بَعْدِ مَا جَاءكَ } ، فاختص موضعاً بالذي ، وموضعين بما ، وهذا الموضع بمن . والذي نقوله في هذا : أنه من اتساع العبارة وذكر المترادف ، لأن ما والذي موصولان ، فأياً منهما ذكرت ، كان فصيحاً حسناً . وأما المجيء بمن ، منهو دلالة على ابتداء بعدية المجيء ، وأما قوله : بعد ، فهو على معنى من ، والتبعدية مقيدة بها من حيث المعنى ، وإن كان إطلاق بعد لا يقتضيها . وقال بعضهم : في الجواب عن ذلك دخول ما مكان الذي ، لأن الذي أخص ، وما أشد إبهاماً ، فحيث خص بالذي أشير به إلى العلم بصحة الدين ، الذي هو الإسلام ، المانع من ملتي اليهود والنصارى ، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه ، لأنه علم بكل أصول الدين ، وخص بلفظ ما ، ما أشير به إلى العلم بركن من أركان الدين ، أحدهما القبلة ، والآخر الكتاب ، لأنه أشار إلى قوله : { وَمِنَ الاْحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } ، قال : وأما دخول من ، ففائدته ظاهرة ، وهي بيان أول الوقت الذي وجب على النبي صلى الله عليه وسلم ) أن يخالف أهل الكتاب في أمر القبلة ، أي ذلك الوقت الذي أمرك الله فيه بالتوجه فيه إلى نحو القبلة ، إن اتبعت أهواءهم ، كنت ظالماً واضعاً الباطل في موضع الحق . انتهى كلامه . .
{ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } : قد ذكرنا أن هذه الجملة هي جواب القسم المحذوف