@ 596 @ وقال ابن دريد : الإشهاد أربعة : الملائكة بإثبات أعمال العباد ، والأنبياء ، وأمة محمد ، والجوارح . انتهى . ولما كان بين الرؤية بالبصر والإدراك بالبصيرة مناسبة شديدة ، سمي إدراك البصيرة : مشاهدة وشهوداً ، وسمي العارف : شاهداً ومشاهداً ، ثم سميت الدلالة على الشيء : شهادة عليه ، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً . وقد اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات . قالوا : وفي هذه الآية دلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واستدل بقوله : { أُمَّةً وَسَطًا } ، أي عدولاً خياراً . وقال بقية العلماء : العدالة وصف عارض لا يثبت إلاببينة ، وقد اختار المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة ما عليه الجمهور ، لتغير أحوال الناس ، ولما غلب عليهم في هذا القوت ، وهذا الخلاف في غير الحدود والقصاص . .
{ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } : لا خلاف أن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ) ، وفي شهادته أقوال : أحدها : شهادته عليهم أنه قد بلغهم رسالة ربه . الثاني : شهادته عليهم بإيمانهم . الثالث : يكون حجة عليهم . الرابع : تزكيته لهم وتعديله إياهم ، قاله عطاء ، قال : هذه الأمة شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين ، والرسول شهيد معد مرك لهم . وروي في ذلك حديث . وقد تقدم أيضاً ما روى البخاري في ذلك . واللام في قوله : لتكونوا هي ، لام كي ، أو لام الصيروة عند من يرى ذلك ، فمجيء ما بعدها سبباً لجعلهم خياراً ، أو عدولاً ظاهراً . وأما كون شهادة الرسول عليهم سبباً لجعلهم خياراً ، فظاهر أيضاً ، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية ، أو بأي معنى فسرت شهادته ، ففي ذلك الشرف التامّ لهم ، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليه . ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له ، جيء بكلمة على ، وتأخر حرف الجر في قوله : على الناس ، عما يتعلق به . جاء ذلك على الأصل ، إذ العامل أصله أن يتقدّم على المعمول . وأما في قوله : { عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } فتقدّمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة ، ولأن شهيداً أشبه بالفواصل والمقاطع من قوله : عليكم ، فكان قوله : شهيداً ، تمام الجملة ، ومقطعها دون عليكم . وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أوّلاً ، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم ؛ وتأخير على : لاختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم ، فهو مبني على مذهبه : أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص . وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم ، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان . وتقدّم ذكر تعليل جعلهم وسطاً بكونهم شهداء ، وتأخر التعليل بشهادة الرسول ، لأنه كذلك يقع . ألا ترى أنهم يشهدون على الأمم ، ثم يشهد الرسول عليهم ، على ما نص في الحديث من أنهم إذا ناكرت الأمم رسلهم وشهدت أمّة محمد عليهم بالتبليغ ، يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم ) فيسأل عن حال أمّته ، فيزكيهم ويشهد بصدقهم ؟ وإن فسرت الشهادتان بغير ذلك مما يمكن أن تكون شهادة الرسول متقدّمة في الزمان ، فيكون التأخير لذكر شهادة الرسول من باب الترقي ، لأن شهادة الرسول عليهم أشرف من شهادتهم على الناس . وأتى بلفظ الرسول ، لما في الدلالة بلفظ الرسول على اتصافه بالرسالة من عند الله إلى أمّته . وأتى بجمع فعلاء ، الذي هو جمع فعيل وبشهيد ، لأن ذلك هو للمبالغة دون قوله : شاهدين ، أو إشهاداً ، أو شاهداً . وقد استدل بقوله : { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } على أن التزكية تقتضي قبول الشهادة ، فإن أكثر المفسرين قالوا : معنى شهيداً : مزكياً لكم ، قالوا : وعليكم تكون بمعنى : لكم . .
{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } : جعل هنا : بمعنى صير ، فيتعدى لمفعولين : أحدهما القبلة ، والآخر { الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا } . والمعنى : وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أوّلاً عليها إلا لنعلم ، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أوّلاً ، لأنه كان يصلي أولاً إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، ثم