@ 108 @ .
فقال الأقرع بن حابس : والله ما أدري ما هذا الأمر ، تكلم خطيبنا ، فكان خطيبهم أحسن قولاً ، وتكلم شاعرنا ، فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً ، ثم دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ) : ( ما يضرك ما كان قبل هذا ) ، ثم أعطاهم وكساهم . .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أن المناداة من وراء الحجرات فيها رفع الصوت وإساءة الأدب ، والله قد أمر بتوقير رسوله وتعظيمه . والوراء : الجهة التي يواريها عنك الشخص من خلف أو قدام ، ومن لابتداء الغاية ، وإن المناداة نشأت من ذلك المكان . وقال الزمخشري : فإن قلت : أفرق بين الكلامين ، بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه . قلت : الفرق بينهما : أن المنادى والمنادي في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء ، وفي الثاني لا يجوز ، لأن الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية ، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن يكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد . والذي يقول : ناداني فلان من وراء الدار ، لا يريد وجه الدار ولا دبرها ، ولكن أي قطر من أقطارها ، كان مطلقاً بغير تعين ولا اختصاص . انتهى . وقد أثبت أصحابنا في معاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد ، وأن الشيء الواحد يكون محلاً لهما . وتأولوا ذلك على سيبويه وقالوا من ذلك قولهم : أخذت الدرهم من زيد ، فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معاً . قالوا : فمن تكون لابتداء الغاية فقط في أكثر المواضع ، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً . وهذه المناداة التي أنكرت ، ليس إنكارها لكونها وقعت في إدبار الحجرات أو في وجوهها ، وإنما أنكر ذلك لأنهم نادوه من خارج ، مناداة الأجلاف التي ليس فيها توقير ، كما ينادي بعضهم بعضاً . .
والحجرات : منازل الرسول صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت تسعة . والحجرة : الرفعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها . وحظيرة الإبل تسمى حجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة . وقرأ الجمهور : الحجرات ، بضم الجيم اتباعاً للضمة قبلها ؛ وأبو جعفر ، وشيبة : بفتحها ؛ وابن أبي عبلة : بإسكانها ، وهي لغى ثلاث ، في كل فعلة بشرطها المذكور في علم النحو . والظاهر أن من صدر منه النداء كانوا جماعة . وذكر الأصم أن من ناداه كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، فإن صح ذلك ، كان الإسناد إلى الجماعة ، لأنهم راضون بذلك ؛ وإذا كانوا جماعة ، احتمل أن يكونوا تفرقوا ، فنادى بعض من وراء هذه الحجرة ، وبعض من وراء هذه ، أو نادوه مجتمعين من وراء حجرة حجرة ، أو كانت الحجرة واحدة ، وهي التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ) ، وجمعت إجلالاً له ؛ وانتفاء العقل عن أكثرهم دليل على أن فيهم عقلاً . وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل ، فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم . انتهى . وليس في الآية الحكم بقلة العقل منطوقاً به ، فيحتمل النفي ، وإنما هو مفهوم من قوله : { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } . والنفي المحض المستفاد إنما هو من صريح لفظ التقليل ، لا من المفهوم ، فلا يحمل قوله : { وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } النفي المحض للشكر ، لأن النفي لم يستفد من صريح التقليل . وهذه الآية سجلت على الذين نادوه بالسفه والجهل . .
وابتدأ أول السورة بتقديم الأمور التي تنتمي إلى الله تعالى ورسوله على الأمور كلها ، ثم على ما نهى عنه من التقديم بالنهي عن رفع الصوت والجهر ، فكان الأول بساطاً للثاني ، ثم يلي بما هو ثناء على الذين امتنعوا من ذلك ، فغضوا أصواتهم دلالة على عظم موقعه عند الله تعالى . ثم جيء على عقبه بما هو أفظع ، وهو الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم ) في حال خلوته ببعض حرمه من وراء الجدار ، كما يصاح بأهون الناس ، ليلبيه على فظاعة ما جسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول ، كان صنيع هؤلاء معه من المنكر المتفاحش . ومن هذا وأمثاله تقتبس محاسن الآداب . كما يحكى عن أبي عبيد ومحله من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال : ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه . .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ } ، قال الزمخشري : { أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } في موضع الرفع على الفاعلية ، لأن المعنى : ولو ثبت صبرهم . انتهى ، وهذا ليس مذهب سيبويه ، أن أن وما بعدها بعد لو في موضع مبتدأ ، لا في موضع فاعل . ومذهب المبرد أنها في موضع فاعل بفعل محذوف ، كما زعم الزمخشري . واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من صبروا ، أي