@ 443 @ التحرير والتحبير : هذا نوع من أنواع علم البيان تسميه علماؤنا استدراج المخاطب ، وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى ، والقوم على تكذيبه ، أراد الانتصار له بطريق يخفي عليهم بها أنه متعصب له ، وأنه من أتباعه ، فجاءهم من طريق النصح والملاطفة فقال : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ اللَّهُ } ، ولم يذكر اسمه ، بل قال رجلاً يوهم أنه لا يعرفه ولا يتعصب له ، { أَن يَقُولَ رَبّىَ اللَّهُ } ، ولم يقل رجلاً مؤمناً بالله ، أو هو نبي الله ، إذ لو قال شيئاً من ذلك لعلموا أنه متعصب . ولم يقبلوا قوله ، ثم اتبعه بما بعد ذلك ، فقدم قوله : { وَإِن يَكُ كَاذِباً } ، موافقة لرأيهم فيه . ثم تلاه بقوله : { وَإِن يَكُ صَادِقاً } ، ولو قال هو صادق وكل ما يعدكم ، لعلموا أنه متعصب ، وأنه يزعم أنه نبي ، وأنه يصدقه ، فإن الأنبياء لا تخل بشيء مما يقولونه ، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدق ، وهو قوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } . انتهى . .
ثم قال : { عَلَيْهِ قَوْمٌ } نداء متلطف في موعظتهم . { لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ } : أي عالمين : { فِى الاْرْضِ } : في أرض مصر ، قد غلبتم بني إسرائيل فيها ، وقهرتموهم واستعبدتموهم ، وناداهم بالملك الذي هو أعظم مراتب الدنيا وأجلها ، وهو من جهة شهواتهم ، وانتصب ظاهرين على الحال ، والعامل فيها هو العامل في الجار والمجرور ، وذو الحال هو ضمير لكم . ثم حذرهم أن يفسدوا على أنفسهم بأنه إن جاءهم بأسس الله لم يجدوا ناصراً لهم ولا دافعاً ، وأدرج نفسه في قوله : { يَنصُرُنَا } ، وجاءنا لأنه منهم في القرابة ، وليعلمهم أن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه . وأقوال هذا المؤمن تدل على زوال هيبة فرعون من قلبه ، ولذلك استكان فرعون وقال : { مَا * أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى } : أي ما أشير عليكم إلا بقتله ، ولا أستصوب إلا ذلك ، وهذا قول من لا تحكم له ، وأتى بما وإلا للحصر والتأكيد . .
{ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ } ، لا ما تقولونه من ترك قتله وقد كذب ، بل كان خائفاً وجلاً ، وقد علم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق ، ولكنه كان يتجلد ، ويرى ظاهره خلاف ما أبطن . وأورد الزمخشري وابن عطية وأبو القاسم الهذلي هنا أن معاذ بن جبل قرأ الرشاد بشد الشين . قال أبو الفتح : وهو اسم فاعل في بنية مبالغة من الفعل الثلاثي رشد ، فهو كعباد من عبد . وقال الزمخشري : أو من رشد ، كعلام من علم . وقال النحاس : هو لحن ، وتوهمه من الفعل الرباعي ، ورد عليه أنه لا يتعين أن يكون من الرباعي ، بل هو من الثلاثي ، على أن بعضهم قد ذهب إلى أنه من الرباعي ، فبنى فعال من أفعل ، كدراك من أدرك ، وسآر من أسأر ، وجبار من أجبر ، وقصار من أقصر ، ولكنه ليس بقياس ، فلا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة ، وفعال من الثلاثي مقيس فحمل عليه . وقال أبو حاتم : كان معاذ بن جبل يفسرها بسبيل الله . قال ابن عطية : ويبعد عندي على معاذ رضي الله عنه . وهل كان فرعون إلا يدعي أنه إله ؟ وتعلق بناء اللفظ على هذا التأويل . انتهى . وإيراد الخلاف في هذا الحرف الذي هو من قول فرعون خطأ ، وتركيب قول معاذ عليه خطأ ، والصواب أن الخلاف فيه هو قول المؤمن : { اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } . قال أبو الفضل الرازي في ( كتاب اللوامح ) له من شواذ القراءات ما نصه : معاذ بن جبل سبيل الرشاد ، الحرف الثاني بالتشديد ، وكذلك الحسن ، وهو سبيل الله تعالى الذي أوضح الشرائع ، كذلك فسره معاذ بن جبل ، وهو منقول من مرشد ، كدراك من مدرك ، وجباز من مجبر ، وقصار من مقصر عن الأمر ، ولها نظائر معدودة ، فأما قصار فهو من قصر من الثوب قصارة . وقال ابن خالويه ، بعد أن ذكر الخلاف في التناد وفي صد عن السبيل ما نصه : سبيل الرشاد بتشديد الشين ، معاذ بن جبل . قال ابن خالويه : يعني بالرشاد الله تعالى . انتهى . فهذا لم يذكر الخلاف إلا في قول المؤمن : { أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } ، فذكر الخلاف فيه في قول فرعون خطأ ، ولم يفسر معاذ بن جبل الرشاد أنه الله تعالى إلا في قول المؤمن ، لا في قول فرعون . قال ابن عطية : ذلك التأويل من قول فرعون وهم . .
{ وَقَالَ الَّذِىءامَنَ ياقَوْمِ * قَوْمٌ * إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاْحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ * لّلْعِبَادِ * وَياقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مّمَّا جَاءكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ( سقط : من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ، الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان آتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين ) } .