@ 159 @ يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز للآخرة ، يتزود إليها منها بالطاعة والأعمال الصالحة ؛ وهم الثانية توكيد لهم الأولى ، أو مبتدأ . وفي إظهارهم على أي الوجهين ، كانت تنبيه على غفلتهم التي صاروا ملتبسين بها ، لا ينفكون عنها . و { فِى أَنفُسِهِمْ } : معمول ليتفكروا ، إما على تقدير مضاف ، أي في خلق أنفسهم ليخرجوا من الغفلة ، فيعلموا أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا فقط ، ويستدلوا بذلك على الخالق المخترع . .
ثم أخبر عقب هذا بأن الحق هو السبب في خلق السموات والأرض ؛ وأما على أن يكون { فِى أَنفُسِهِمْ } ظرفاً للفكرة في خلق السموات والأرض ، فيكون { فِى أَنفُسِهِمْ } توكيداً لقوله : { يَتَفَكَّرُونَ } ، كما تقول : أبصر بعينك واسمع بأدنك . وقال الزمخشري : في هذا الوجه كأنه قال : أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم ؟ أي في قلوبهم الفارغة من الفكر . والفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك . وقال أيضاً : يكون صلة المتفكر ، كقولك : تفكر في الإمر وأجال فكره . و { مَّا خَلَقَ اللَّهُ } متعلق بالقول المحذوف ، معناه : أو لم يتفكروا ، فيقولوا هذا القول ؟ وقيل معناه : فيعلموا ، لأن في الكلام دليلاً عليه . انتهى . والدليل هو قوله : { أَوَ لَمْ * يَتَفَكَّرُواْ } . وقيل : { أَوَ لَمْ * يَتَفَكَّرُواْ } متصل بما بعده ، ومثله : ثم { يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ } ، ومثله : { وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ } ، فيكون في بمعنى الباء ، ثم { يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن } ، كأنه قال : أو لم يتفكروا بقلوبهم فيعلموا . انتهى . ويجوز أن يكون تفكروا هنا معلقة ، ومتعلقها الجملة من قوله : { مَا خَلَقَ } إلى آخرها . و { فِى أَنفُسِهِمْ } : ظرف على سبيل التأكيد ، لأن الفكر لا يكون إلا في النفس ، كما أن الكتابة لا تكون إلا باليد . و { بِالْحَقّ } : في موضع الحال ، أي وهي ملتبسة بالحق مقترنة به ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه وهو : قيام الساعة ، ووقت الحساب والثواب والعقاب . ألا ترى إلى قوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } . كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثاً ؟ والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى . .
وقال ابن عطية : { إِلاَّ بِالْحَقّ } ، أي بسبب المنافع التي هي حق واجب ، يريد من الدلالة عليه والعبادة له دون فتور ، والانتصار للعبرة ومنافع الإرفاق وغير ذلك . { وَأَجَلٌ } عطف على الحق ، أي وبأجل مسمى ، وهو يوم القيامة . ففي الآية إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية هذا العالم . ثم أخبر عن كثير من الناس أنهم كفروا بذلك المعنى ، فعبر عنها بلقاء الله ، لأن لقاء الله هو عظيم الأمر ، فيه النجاة والهلكة . انتهى . .
وقال أبو عبد الله الرازي : قدم هنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق ، وفي : { سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ } دلائل الآفاق على دلائل الأنفس ، وحكمة ذلك أن المفيد يذكر الفائدة على وجه يختارها ، فإن فهمت ، وإلا انتقل إلى الأبين . والمستفيد يفهم أولاً الأبين ، ثم يرتقي إلى الأخفى . وفي { أَوَ لَمْ * يَتَفَكَّرُواْ } بفعل مسند إلى السامع ، فبدأ بما يفهم أولاً ، ثم ارتقى إليه ثانياً . وفي { سَنُرِيهِمْ } أسند إلى المفيد ، فذكر أولاً ، الآفاق ، فإن لم يفهموا ، فالأنفس ، إذ لا ذهول للإنسان عن دلائلها ، بخلاف دلائل الآفاق ، لأنه قد يذهل عنها ، وهذا مراعي في { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً } الآية . بدأ بأحوال الأنفس ، ثم بدلائل الآفاق . وقال أيضاً هنا : { وَإِنَّ كَثِيرًا } ، { وَقَبْلَ } ، { وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ } ، وذلك أن هنا ذكر كثيراً بعد ذكر الدلائل الواضحة ، وهما : { أَوَ لَمْ * يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ } ، و { مَّا خَلَقَ اللَّهُ } . والإيمان بعد الدلائل أكثر من الإيمان قبلها ، فبعد ذكر الدليل ، لا بد أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع ، فلا يبقى الأكثر . انتهى ، وفيه تلخيص . ولا يتم كلامه الأول إلا إذا جعل { فِى أَنفُسِهِمْ } محلاً للتفكر ، وجعل { مَا خَلَقَ } أيضاً محلاً ثانياً . .
{ أَوَ لَمْ * يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ } : هذا تقرير توبيخ ، أي قد ساروا ونظروا إلى ما حمل ممن كان قبلهم من مكذبي الرسل ، ووصف حالهم من الشدة وإثارة الأرض وعمارتها ، وأنهم أقوى منهم في ذلك . قال مجاهداً : { وَأَثَارُواْ الاْرْضَ } : حرثوها . وقال الفراء : قلبوها للزراعة . وقال غيرهما : قلبوا وجه الأرض لاستنباط المياه ، واستخراج المعادن ، وإلقاء البذر فيها للزراعة ؛ والإثارة : تحريك الشيء حتى يرتفع ترابه . وقرأ أبو جعفر : وآثاروا الأرض ، بمدة بعد الهمزة . وقال ابن مجاهد : ليس بشيء ، وخرجه أبو الفتح على الإشباع كقوله : .
ومن ذم الزمان بمنتزاح