@ 230 @ أهله نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستنفي معها لفظ المنفي وأذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله بصلاحهم ، لا لأنهم أهلك وأقاربك ، وإن هذا لما انتفي عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك . وقرأ الصاحبان : تسألنّ بتشديد النون مكسورة ، وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي كذلك ، إلا أنهم أثبتوا الباء بعد النون ، وابن كثر بتشديدها مفتوحة وهي قراءة ابن عباس . وقرأ الحسن وابن أبي مليكة : تسألني من غير همز ، من سال يسال ، وهما يتساولان ، وهي لغة سائرة . وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها ، وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو ، وحذفها الباقون . قال الزمخشري : فلا تلتمس ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب حتى تقف على كنهه ، وذكر المسألة دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه . ( فإن قلت ) : لم سمي نداءه سؤالاً ولا سؤال فيه ؟ ( قلت ) : قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به ، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة الغرق فقد استنجز ، وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلاً وغباوة ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين . ( فإن قلت ) قد وعد الله أن ينجيَ أهله ، وما كان عنده أنّ ابنه ليس منهم ديناً ، فلما أشفي على الغرق تشابه عليه الأمر ، لأنّ العدة قد سبقت له ، وقد عرف الله حكيماً لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد ، فطلب إماطة الشبهة وطلب إماطة الشبهة واجب ، فلم زجر وجعل سؤاله جهلاً ؟ ( قلت ) : أن في جملة أهله من هو مستوجب العذاب لكونه غير صالح ، وأنّ كلهم ليسوا بناجين ، وأنْ لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم ، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب بما يجب أن لا يشتبه . وقال ابن عطية : معنى قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، أي إذ وعدتك فاعلم يقيناً أنه لا خلف في الوعد ، فإذا رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أنّ ذلك لحق واجب عند الله ، ولكنّ نوحاً عليه السلام حملته شفقة البنوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير ، وعلى هذا القدر وقع عقابه ، ولذلك جاء بتلطف وترج في قوله : إني أعظك أن تكون من الجاهلين . ويحتمل قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، أي : لا تطلب مني أمراً لا تعلم المصلحة فيه علم يقين ، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي وقال : إن به يجوز أن يتعلق بلفظ عام كما قال الشاعر : .
كأن جزائي بالعصا أن أجلدا .
ويجوز أن يكون به بمنزلة فيه ، فتتعلق الباء بالمستقر . واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي ، والمعنى في الآية واحدة . وذكر الطبري عن ابن زيد تأويلاً في قوله : إني أعظك أن تكون من الجاهلين لا يناسب النبوة تركناه ، ويوقف عليه في تفسير ابن عطية . وقيل : سأل نوح ربه حين صار عنه ابنه بمعزل ، وقيل : قبل أن عرف هلاكه ، وقيل : بعد أن عرف هلاكه سأل الله له المغفرة أنْ أسألك من أن أطلب في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأديباً بأدبك ، واتعاظاً بموعظتك ، وهذه إنابة من نوح عليه السلام وتسليم لأمر الله . قال ابن عطية : والسؤال الذي وقع النهي عنه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة ، وطلبه ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه . وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا ، وظاهر قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، يعم النحوين من السؤال ، ولذلك نبهت على أنّ المراد أحدهما دون الآخر ، والخاسرون هم المغبونون حظوظهم من الخير انتهى ، ونسب نوح النقص والذنب إلى نفسه تأدباً مع ربه فقال : وألا تغفر لي ، أي ما فرط من سؤالي وترحمني بفضلك ، وهذا كما قال آدم عليه السلام .