@ 140 @ التعنت . .
{ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِىءايَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا } : لما ذكر تعالى قوله : { وَإِذْ * تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ } . الآية ثم ذكر قوله : { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ * ءايَةً } وذلك على سبيل التعنت أخبر أنّ هؤلاء إنما يصيرون لهذه المقالات عندما يكونون في رخاء من العيش وخلو بال ، وأنّ إحسان الله تعالى قابلوه بما لا يجوز من ابتغاء المكر لآياته ، وكان خليقاً بهم أن يكونوا أول من صدق بآياته . وإعراضهم عن الآيات نظير قوله : { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَّسَّهُ } . وسبب نزولها أنه لما دعا على أهل مكة الرسول بالجدب قحطوا سبع سنين ، فأتاه أبو سفيان فقال : إدع لنا بالخصب ، فإنْ أخصبنا صدقنا ، فسأل الله لهم فسقوا ولم يؤمنوا ، وهذه وإن كانت في الكفار فهي تتناول من العاصين من لا يؤدّي شكر الله عند زوال المكروه عنه ، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه ، وذلك في الناس كثير . تجد الإنسان يعقد عند مس الضر التوبة والتنصل من سائر المعاصي ، فإذا زال عنه رجع إلى أقبح عاداته . والرحمة هنا الغيث بعد القحط ، والأمن بعد الخوف ، والصحة بعد المرض ، والغنى بعد الفقر ، وما أشبه ذلك . ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم ، ومعنى مكر في آياتنا التكذيب بالقرآن ، والشك فيه قاله الجماعة . وقال مجاهد ومقاتل : الاستهزاء والتكذيب . وقال أبو عبيدة : الرد والجحود . وحكى الماوردي النفاق لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وهو شبيه بما قال الزمخشري : إنّ المكر أخفى الكيد . وقال ابن عطية : والمكر الاستهزاء والطعن عليها من الكفار ، واطراح الشكر والخوف من العصاة انتهى . والإذاقة والمس هنا مجازان ، وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب ابن آدم من حالة الخير إلى حالة الشر ، وذلك بلفظ أذقنا ، كأنه قيل : أول ذوقه الرحمة قبل أن يدوام استطعامها مكروه بلفظ من المشعرة بابتداء الغاية أي : ينشىء المكر إثر كشف الضراء لا يمهل ذلك . وبلفظ إذا الفجائية الواقعة جواباً لإذا الشرطية ، أي في وقت إذاقة الرحمة فاجاؤا بالمكر . ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم قيل : قل الله أسرع مكراً فجاءت أفعل التفضيل . ومعنى وصف المكر بالأسرعية : أنه تعالى قبل أن يدبروا مكائدهم قضى بعقابكم ، وهو موقعه بكم ، واستدرجكم بإمهاله . قال ابن عطية : أسرع من سرع ، ولا يكون من أسرع يسرع ، حكى ذلك أبو علي . ولو كان من أسرع لكان شاذاً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : ( في نار جهنم لهي أسود من القار ) وما حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم ) فليس بشاذ انتهى . وقيل : أسرع هنا ليست للتفضيل ، وحكاية ذلك عن أبيّ على هو مذهب . وفي بناء التعجب وأفعل التفضيل من أفعل ثلاثة مذاهب : المنع مطلقاً وما ورد من ذلك فهو شاذ ، والجواز مطلقاً ، والتفصيل بين أن تكون الهمزة فيه للنقل فيمنع ، أو لغير النقل فيجوز ، نحو : أشكل الأمر وأظلم الليل ، وتقرير الصحيح من ذلك هو في علم النحو وأما تنظير أسود من القار بأسرع ففاسد ، لأن أسود ليس فعله على وزن أفعل ، وإنما هو على وزن فعل نحو سود فهو أسود ، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو : سود وحمر وأدم إلاّ لكونه لوناً ، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقاً ، وبعضهم في السواد والبياض فقط . .
والرسل هنا الحفظة بلا خلاف . والمعنى : أن ما تظنونه خافياً مطوياً عن الله لا يخفى عليه ، وهو منتقم منكم . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ، وأبو عمر : ورسلنا بالتخفيف . وقرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والأعرج ، ورويت عن نافع : يمكرون على الغيبة جرياً على ما سبق . وقرأ أبو رجاء ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، وطلحة ، والأعمش ، والجحدري ، وأيوب بن المتوكل ، وابن محيصن ، وشبل ، وأهل مكة ، والسبعة : بالتاء على الخطاب مبالغة لهم في الإعلام بحال مكرهم ، والتفاتاً لقوله : قل الله أي : قل لهم ، فناسب الخطاب . وفي قوله : إنّ رسلنا التفات أيضاً ، إذ لم يأت أنّ رسله . وقال أيوب بن المتوكل في مصحف أبي : يا أيها الناس إنّ الله أسرع مكراً ،