@ 137 @ لما كان أحد المطلوبين التبديل بدأ به في الجواب ، ثم أتبع بأمر عام يشمل انتفاء التبديل وغيره ، ثم أتى بالسبب الحامل على ذلك وهو الخوف ، وعلقه بمطلق العصيان ، فبأدنى عصيان ترتب الخوف . .
{ قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } : هذه مبالغة في التبرئة مما طلبوا منه أي : إنّ تلاوته عليهم هذا القرآن إنما هو بمشيئة الله تعالى وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره ، ولا نشأ في بلدة فيها علماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يبهر كلام كل فصيح ، ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع ، وإخبار ما كان وما يكون ، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى ، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ولا يخفي عليكم شيء من أسراره ، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك ، ولا عرّفه به أحد من أقرب الناس إليه وألصقتم به . ومفعول شاء محذوف أي : قل لو شاء الله أن لا أتلوه ، وجاء جواب { لَوْ } على الفصيح من عدم إتيان اللام ، لكونه منفياً بما ، ويقال : دريت به ، وأدريت زيداً به ، والمعنى : ولا أعلمكم به على لساني . وقرأ قنبل والبزي من طريق النقاش عن أبي ربيعة عنه : ولأدراكم بلام دخلت على فعل مثبت معطوف على منفي ، والمعنى : ولأعلمكم به من غير طريقي وعل لسان غيري ، ولكنه يمن على من يشاء من عباده ، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلاً دون الناس . .
وقراءة الجمهور : ولا أدراكم به فلا مؤكدة ، وموضحة أنّ الفعل منفي لكونه معطوفاً على منفي ، وليست لا هي التي نفي الفعل بها ، لأنه لا يصح نفي الفعل بلا إذا وقع جواباً ، والمعطوف على الجواب جواب . وأنت لا تقول : لو كان كذا لا كان كذا ، إنما يكون ما كان كذا . وقرأ ابن عباس ، وابن سيرين ، والحسن ، وأبو رجاء : ولا ادرأتكم به بهمزة ساكنة ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما : أن الأصل أدريتكم بالياء فقلبها همزة عل لغة من قال : لبأت بالحج ، ورثأت زوجي بأبيات ، يريد : لبيت ورثيت . وجاز هذا البدل لأنّ الألف والهمزة من واد واحد ، ولذلك إذا حركت الألف انقلبت همزة كما قالوا في العالم العألم ، وفي المشتاق المشتأق . والوجه الثاني : أن الهمزة أصل وهو من الدرء ، وهو الدفع يقال : درأته دفعته ، كما قال : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ } ودرأته جعلته دارئاً ، والمعنى : ولأجعلنكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني . وزعم أبو الفتح إنما هي أدريتكم ، فقلب الياء ألفاً لا نفتاح ما قبلها ، وهي لغة لعقيل حكاها قطرب يقولون في أعطيتك : أعطأتك . وقال أبو حاتم : قلب الحسن الياء ألفاً كما في لغة بني الحرث بن كعب السلام علاك ، قيل : ثم همز على لغة من قال في العالم العألم . وقرأ شهر بن حوشب والأعمش ، ولا أندرتكم به بالنون والذال من الإنذار ، وكذا هي في حرف ابن مسعود ، ونبّه على أنّ ذلك وحي من الله تعالى بإقامته فيهم عمراً وهو أربعون سنة من قبل ظهور القرآن على لساني يافعاً وكهلاً ، لم تجربوني في كذب ، ولا تعاطيت شيئاً من هذا ، ولا عانيت اشتغالاً ، فكيف أتهم باختلاقه ؟ أفلا تعقلون أنّ من كان بهذه الطريقة من مكثه الأزمان الطويلة من غير تعلم ، ولا تلمذ ، ولا مطالعة كتاب ، ولا مراس جدال ، ثم أتى بما ليس يمكن أن يأتي به أحد ، ولا يكون إلا محقاً فيما أتى به مبلغاً عن ربه ما أوحى إليه وما اختصه به ؟ كما جاء في حديث هرقل : هل جربتم عليه كذباً ؟ قال : لا فقال : لم يكن ليدع الكذب على الخلق ويكذب على الله . وأدغم ثاء لبثت أبو عمرو ، وأظهرها باقي السبعة . وقرأ الأعمش : عمراً بإسكان الميم ، والظاهر وعود الضمير في من قبله على القرآن . وأجاز الكرماني أنْ يعود على التلاوة ، وعلى النزول ، وعلى الوقت يعني : وقت نزوله . .
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ } : تقدم تفسير مثل هذا الكلام ، ومساقه هنا باعتبارين : أحدهما : أنه لما قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، كان في ضمنه أنهم ينسبونه إلى أنه ليس من عند الله وإنما هو اختلاق ، فبولغ في ظلم من افترى على الله كذباً كما قال : فمن