@ 319 @ بحث ونظر وتجربة ، فأخبروهم بحقيقة ذلك ، وأنّ الأمر ليس جارياً على أول خبر يطرأ . .
قال الزمخشري : هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال والاستبطان للأمور ، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) من أمن وسلامة أو خوفٍ وخللٍ أذاعوا به ، وكانت إذاعتهم مفسدة . ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله ، وإلى أولي الأمر منهم وهم : كبار الصحابة البصراء بالأمور ، أو الذين كانوا يؤمرون منهم لعلمه ، لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستنبطونه أي : الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها . وقيل : كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء ، أو على خوف واستشعار ، فيذيعونه فينشر ، فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة ، ولو ردوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم ، وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمه الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه ، وما يأتون ويدرون فيه . وقيل : كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن السرايا مظنوناً غير معلوم الصحة فيذيعونه ، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر ، وقالوا : نسكت حتى نسمعه منهم ، ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع ؟ لعلمه الذين يستنبطونه منهم لعلم صحته ، وهل هو مما يذيع هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر أي : يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم انتهى كلامه . .
وهذه كلها تأويلات حسنة ، وأجراها على نسق الكلام هذا التأويل الأخير وهو : أنّ المعنى إذا طرأ خبر بأمن المسلمين أو خوف ، فينبغي أن لايشاع ، وأن يردّ إلى الرسول وأولي الأمر ، فإنهم يخبرون عن حقيقة الأمر فيعلمه من يسألهم ، ويستخرج ذلك من جهتهم ، لأنّ ما أخبر به الرسول وأولوا الأمر إذ هم مخبرون عنه حق لا شك فيه . وقال أبو بكر الرازي : في هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث ، لأنه أمر بردّ الحوادث إلى الرسول في حياته إذ كانوا بحضرته ، وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته ، والمنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه ، فثبت بذلك أنَّ من الأحكام ما هو مودع في النص قد كلف الوصول إلى علمه بالاستدلال والاستنباط . وطوَّل الرازي في هذه المسألة اعتراضاً وانفصالاً واستقرأ من الآية أحكاماً . .
قال : ويدل على بطلان قول القائل بالإمامة : لأنه لو كان كل شيء من الأحكام منصوصاً عليه يعرفه الإمام لزال موضع الاستنباط ، وسقط الرد إلى أولي الأمر ، بل كان الواجب الرّد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص . وقال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير ما نصه في ذلك الكتاب : وقد لاح لي في هذه الآية أنّ في الكلام حذفاً وتقديماً وتأخيراً وأنَّ هذا الكلام متعلق بالذي قبله مردود إليه ، ويكون التقدير : أفلا يتدبرون القرآن ، ولو تدبروه لعلموا أنه من كلام الله ، والمشكل عليهم من متشابهه لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم يعني : لعلم معنى ذلك المتشابه الذين يستنبطونه منهم من أهل العلم بالكتاب إلا قليلاً ، وهو ما ستأثر الله به من علم كتابه ومكنون خطابه . ثم قال : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، والذي حسن لهم ذلك وزينه الشيطان ، ثم التفت إلى المؤمنين فقال : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } وقد أشار إلى شيء من هذا أبو طالب المكي في كتابه المعروف بقوت القلوب ، وقال : إن قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } متصل بقوله { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } وعلى هذا يكون الاستنباط استخراجاً من معنى اللفظ المتشابه بنوع من النظرة والاجتهاد والتفكر انتهى كلامه . وهو كما ترى تركيب ونظم غير تركيب القرآن ونظمه ، وكثيراً ما يذكر هذا الرجل في القرآن تقديماً وتأخيراً ، وأغرب من ذلك أنه يجعله من أنواع علم البيان ، وأصحابنا وحذاق النحويين يجعلونه من باب ضرائر الأشعار ، وشتان ما بين القولين . وقرأ أبو السمال : لعلمه بسكون اللام . قال ابن عطية : وذلك مثل شجر بينهم انتهى . وليس مثله لأنّ تسكين علم قياس مطرد في لغة تميم