@ 305 @ موضع الجملة نصب على الحال كما تقول : مررت بزيد وكان لم يكن بينك وبينه معرفة ، فضلاً عن مودة . وقال أبو علي الفارسي : هذه الجملة من قول المنافقين الذين أقعدوهم عن الجهاد وخرجوا هم ، كأن لم تكن بينكم وبينه أي : وبين النبي صلى الله عليه وسلم ) مودة فيخرجكم معهم لتأخذوا من الغنيمة ، ليبغضوا بذلك الرسول إليهم . وتبع أبو علي في ذلك مقاتلاً . قال مقاتل : معناه كأنه ليس من أهل ملتكم ولا مودة بينكم ، يريد : أنّ المبطىء قال لمن تخلف عن الغزو من المنافقين وضعفة المؤمنين ، ومن تخلف بإذن كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة فيخرجكم إلى الجهاد ، فتفوزون بما فاز . وقال أبو عبد الله الرازي : هو اعتراض في غاية الحسن ، لأن من أحب إنساناً فرح عند فرحه ، وحزن عند حزنه ، فإذا قلب القضية فذلك إظهار للعداوة . فنقول : حكى تعالى عن المنافق سروره وقت نكبة المسلمين ، ثم أراد أن يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاتته الغنيمة ، فقبل أن يذكر الكلام بتمامه ألقى قوله : كأن لم يكن بينكم وبينه ، والمراد التعجب . كأنه يقول تعالى : انظروا إلى ما يقوله هذا المنافق ، كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة أيها المؤمنون ولا مخالطة أصلاً ، فهذا هو المراد من الكلام . .
وقال قتادة وابن جريج : قول المنافق : يا ليتني كنت معهم على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغبته . .
وتلخص من هذه الأقوال أن هذه الجملة : إمّا أن يكون لها موضع من الإعراب نصب على الحال من الضمير المستكن في ليقولن ، أو نصب على المفعول بيقولن على الحكاية ، فيكون من جملة المقول ، وجملة المقول هو مجموع الجملتين : جملة التشبيه ، وجملة التمني . وضمير الخطاب للمتخلفين عن الجهاد ، وضمير الغيبة في وبينه للرسول . وعلى الوجه الأول ضمير الخطاب للمؤمنين ، وضمير الغيبة للقائل . وإمّا أن لا يكون لها موضع من الإعراب لكونها اعتراضاً في الأصل بين جملة الشرط وجملة القسم وأخرت ، والنية بها التوسط بين الجملتين . أو لكونها اعتراضاً بين : ليقولن ومعموله الذي هو جملة التمني ، ولبس اعتراضاً يتعلق بمضمون هذه الجملة المتأخرة ، بل يتعلق بمضمون الجملتين ، والضمير الذي للخطاب هو للمؤمنين ، وفي بينه للقائل . واعترض به بين أثناء الحملة الأخيرة ، ولم يتأخر بعدها وإنْ كان من حيث المعنى متأخراً إذ معناه متعلق بمضمون الجملتين ، لأن معمول القول النية به التقديم ، لكنه حسن تأخيره كونه وقع فاصلة . ولو تأخرت جملة الاعتراض لم يحسن لكونها ليست فاصلة ، والتقدير : ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة ، إذ صدر منه قوله وقت المصيبة : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً . وقوله : وقت الغنيمة يا ليتني كنت معهم ، وهذا قول من لم تسبق منه مودة لكم . .
وفي الآيتين تنبيه على أنهم لا يعدّون من المنح إلا أغراض الدنيا ، يفرحون بما ينالون منها ، ولا من المحن إلا مصائبها فيتألمون لما يصيبهم منها كقوله تعالى : { فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ } الآية . وتضمنت هذه الجملة أنواعاً من الفصاحة والبديع : دخول حرف الشرط على ما ليس بشرط في الحقيقة في قوله : إن كنتم تؤمنون . والإشارة في ذلك : خير أولئك الذين يعلم الله ، فأولئك مع الذين ، وحسن أولئك رفيقاً ، ذلك الفضل من الله . والاستفهام المراد به التعجب في : ألم تر إلى الذين يزعمون . والتجنيس المغاير في : أن يضلهم ضلالاً ، وفي : أصابتهم مصيبة ، وفي : وقل لهم في أنفسهم قولاً ، وفي : يصدّون عنك صدوداً ، وفي : ويسلموا تسليماً ، وفي : فإنْ أصابتكم مصيبة ، وفي : فأفوز فوزاً عظيماً . والاستعارة في : فإن تنازعتم ، أصل المنازعة الجذب باليد ، ثم استعير للتنازع في الكلام . وفي : ضلالاً بعيداً استعار البعد المختص بالأزمنة والأمكنة للمعاني المختصة بالقلوب لدوام القلوب عليها ، وفي : فيما شجر بينهم استعار ما اشتبك وتضايق من الشجر للمنازعة التي يدخل بها بعض الكلام في بعض استعارة المحسوس للمعقول وفي : أنفسهم حرجاً أطلق اسم الحرج الذي هو من وصف الشجر إذا تضايق على الأمر الذي يشق على النفس للمناسبة التي بينهما وهو من الضيق والتتميم ، وهو أن يتبع الكلام كلمة تزيد المعنى تمكناً وبياناً للمعنى المراد وهو في