@ 300 @ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم إشارة إلى الملأ الأعلى . ثم قال : { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } ويبين ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ) حين الموت { اللَّهُمَّ * إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى } وهذا ظاهر انتهى . وهذا الوجه الذي هو عنده ظاهر فاسد من جهة المعنى ، ومن جهة النحو . أما من جهة المعنى فإنّ الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ) ، أخبر الله تعالى أنْ من يطيعه ويطيع رسوله فهو مع من ذكر ، ولو كان من النبيين معلقاً بقوله : ومن يطع الله والرسول ، لكان قوله : من النبيين تفسيراً لمن في قوله : ومن يطع . فيلزم أن يكون في زمان الرسول أو بعده أنبياء يطيعونه ، وهذا غير ممكن ، لأنه قد أخبر تعالى أنّ محمداً هو خاتم النبيين . وقال هو صلى الله عليه وسلم ) : ( لا نبي بعدي ) . وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها ، لو قلت : إنْ تقم هند فعمرو ذاهب ضاحكة ، لم يجز . .
واختلفوا في الأوصاف الثلاثة التي بعد النبيين . فقال بعضهم : كلها أوصاف لموصوف واحد ، وهي صفات متداخلة ، فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أنْ يكون صديقاً وشهيداً وصالحاً . وقيل : المراد بكل وصف صنف من الناس . فأما الصديق فهو فعيل للمبالغة كشريب . فقيل : هو الكثير الصدق ، وقيل : هو الكثير الصدقة . وللمفسرين في تفسيره وجوه : الأول : أنّ كل من صدق بكل الذي لا يتخالجه فيه شك فهو صديق لقوله تعالى : { وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ } . الثاني : أفاضل أصحاب الرسول . الثالث : السابق إلى تصديق الرسول . فصار في ذلك قدوة لسائر الناس . وأما الشهيد : فهو المقتول في سبيل الله ، المخصوص بفضل الميتة . وفرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة ، لأنهم أكرم من أن يشفع فيهم . وقد تقدم الكلام في كونهم سموا شهداء ، ولكن لفظ الشهداء في الآية يعم أنواع الشهداء الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . وقال أبو عبد الله الرازي : لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر ، بل نقول : الشهيد فعيل بمعنى فاعل ، وهو الذي يشهد لدين الله تارة بالحجة بالبيان ، وتارة بالسيف والسنان . فالشهداء هم القائمون بالقسط ، وهم الذين ذكرهم الله في قوله : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } . والصالح : هو الذي يكون صالحاً في اعتقاده وعمله . وجاء هذا التركيب على هذا القول على حسب التنزل من الأعلى إلى الأدنى ، إلى أدنى منه . وفي هذا الترغيب للمؤمنين في طاعة الله وطاعة رسوله ، حيث وعدوا بمرافقة أقرب عباد الله إلى الله ، وأرفعهم درجات عنده . .
وقال الراغب : قسم الله المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام ، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض ، وحث كافة الناس أنْ يتأخروا عن منزل واحد منهم : الأول : الأنبياء الذين تمدهم قوة الإلهية ، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من قريب . ولذلك قال تعالى : { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } . الثاني : الصديقون وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة ، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من بعيد وإياه عني أمير المؤمنين حين قيل له : هل رأيت الله ؟ فقال : ما كنت لأعبد شيئاً لم أره ثم قال : ( لم تره العيون بشواهد الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان . الثالث : الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين . ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب ، كحال حارثة حيث قال : كأني أنظر إلى عرش ربي ، وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم ) حيث قال : ( اعبد الله كأنك تراه ) . الرابع : الصالحون ، وهم الذين يعرفون الشيء باتباعات وتقليدات الراسخين في العلم ، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة . وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم ) بقوله : ( اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) انتهى كلامه . وهو شبيه بكلام المتصوفة . .
وقال عكرمة : النبيون محمد صلى الله عليه وسلم ) ، والصديقون أبو بكر ، والشهداء عمر وعثمان وعلي ، والصالحون صالحو أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ) انتهى .